Friday, May 11, 2012


حول تجربة أحمد الملك الأدبية
 عماد الدين البليك
الفرقة الموسيقية " أول وأخر عمل إبداعي روائي سوداني فكك مركبات الواقع السياسي، ونقد بشكل لاذع فوضى الديمقراطيات وتخبطية الديكتاتوريات،.. ورغم أن العمل كُتب في بداية التسعينات من القرن العشرين إلا أنه لا يزال مجهولا، ولم يضاء بشكل مقدر من قبل النقاد، وغاب عن مرآة الثقافة السودانية دون أن يشار إليه. 
قامت رواية " الفرقة الموسيقية " لأحمد حمد الملك على فكرة مجتمع الحيوانات على طريقة الرواية الشهيرة " أنمل فارم " ( مزرعة الحيوان)،استوحى فيها الكاتب العلاقة بين مجتمع الكلاب كمحور لحركية النص الإبداعي، فيما عبر بالفرقة الموسيقية عن محاولة إنتاج الجديد من خلال ذلك المجتمع الذي انقسم لفئتين : فئة كادحة تحاول أن توجد ذاتها ومحلها في المجتمع الإنساني بما تملكه من مواهب غير مقدرة لدى الأخر، وفئة سلطوية فوقية تتمتع بكافة فرص الحياة الاجتماعية الثرة باستحواذها على السلطة والمال. 
وإذا كانت طريقة حمد الملك تقوم على إمكانية خلق توافق من نوع ما بين الكادح والسلطوي عبر النص الروائي، إلا أن ما يجابه ذلك الخلق نوع من الحركة الاجتماعية الضاربة القوية التي تلتزم بقوانينها وقواعدها، صحيحة كانت أم خاطئة، وتكرس لهذه القواعد والقوانين أنظمة مستحدثة يكون على الجميع الالتزام بها وبأي شكل كان. 
يستلهم حمد الملك في تقنية الرواية الأسلوب " الماركيزي " نسبة إلى غابرييل غارسيا ماركيز ، الروائي الكولومبي المعروف، وقد التفت لذلك الأمر مبكرا الدكتور بشرى الفاضل في تقديمه للرواية، ويقوم الأسلوب " الماركيزي" عند حمد الملك على محاور واقعية بشكل غير مباشر، ولا يعيد تفكيك التاريخ الاجتماعي والسياسي بنحو كبير، فهو يتخذ عملية المباشرة في تحليل بنية الصراعات السياسية والأيدلوجية عبر مجتمعات الحيوان كقالب للكائن البشري، ومن خلال ذلك يعكس الكاتب رؤى متباينة أو ربما هي أسئلة عن المعاش الآني يفسر من خلالها جدل الواقع ويقول بحتمية الصراع ولا مغزى المحاولات. 
لكن تجربة حمد الملك جذرّت ذاتها بشكل أفضل وأكثر اقترابا من العمل الروائي الملحمي عندما كتب فيما بعد روايته الملحمية " عصافير آخر أيام الخريف "، وفيها يستلهم عالم الواقع السحري، ولكن بشكل جديد يقوم على وعي تام بكثير من عناصر البناء الدرامي للرواية الملحمية الحديثة،.. 
وفي عمل زادت صفحاته عن الـ 300 صفحة من القطع المتوسط، حاول حمد الملك أن يصنع فضاء متخيلا لا ينتمي لأي مكان أو زمان أو بنية صراع خاص داخل المجتمع السوداني الحديث أو القديم، وإن كانت الغلبة لمجتمع أقصى شمال السودان، ومنطقة دنقلا على وجه التحديد، حيث ينتمي الكاتب لهذه المنطقة، وقد عاش فيها طويلا بعد وقبل اغترابه عن الوطن، وعمله بمهنة التعليم. 
يمتلك حمد الملك قدرة مدهشة على تشريح الحياة الاجتماعية دون أن يمسها بالمباشرة في طريقة تتداخل فيها الأحداث الغربية المستوحاة من الطابع السحري والملحمي، بحيث تكون الأحداث وشخوصها غير منطقية في أغلب النص، لكنها تعبر عن عالم خاص ينتمي لحمد الملك وحده، ليعبر نص ( عصافير آخر أيام الخريف ) عن لونية جديدة وتيار خاص وجديد في الرواية السودانية الحديثة لم يضاء بعد كما ينبغي. 
ويمكن القول بشكل مطلق أن ملحمة العصافير الخريفية كانت محاولة جادة لمحاكاة " مائة عام من العزلة " لماركيز، وفق منظور " أفرو- عربي " يمازج بين عناصر التاريخ الدرامي العربي في السودان، وتاريخ الزنجية الذي طمست الكثير من وقائعه وغابت عن التدوين لفترة ما قبل تأسيس السلطة السنارية العربية، وقد استلهم حمد الملك العديد من بنى التراث وحاول في ذات الوقت أن يوجد فضاءات غير متوقعة من صنع خياله لا تمس للتاريخ الحقيقي أو الاصطناعي بصلة ما. 
لكن ما يحكم محاولات حمد الملك هو مسارها الجاد لبناء وعي روائي من نوع جديد في السودان، وربما كانت أزمة النقد هي المسؤول المباشر عن غياب " ماركيز السودان " ككاتب مركزي في مسيرة الإبداع الروائي السوداني الحديث، إلا أن ذلك لا يمكن أن يكون مبررا مقبولا، لأن هناك كتابات نقدية عملت على إظهار العديد من الأعمال رغم هامشيتها الثقافية،.. واعتقد حسب تقديري الذاتي أن الأزمة الحقيقية التي واجهت حمد الملك تكمن في جانب ما في شخصيته وكونه ظل يعمل في هدوء وبعيدا عن البوق الإعلامي، بعكس ما سلك آخرون غيره تمركزوا غصبا في الساحة الثقافية السودانية رغم أنفها. 
وفي مقابلة لي معه عام 1993 م بالخرطوم كان قد استقر لي ذلك اليقين، فالرجل يحب حياة البساطة، رافضا فكرة الشهرة، ورافضا الاغتراب عن الوطن وقتذاك، يتحدث عن مشروعه الروائي بطريقة هادئة جدا، وقد لا تكتشف من خلال محاورتك معه عمق العالم الذي يحمله ويباشر به إبداعه القصصي والروائي. 
جانب آخر يتعلق بغياب حمد الملك عن المركز الثقافي، يمكن إرجاعه إلى غياب سلطة القارئ المباشرة في السنوات الأخيرة، حيث تحولت السلطة التقويمية إلى أفواه فئات معينة تباشر عمليتي الهدم والبناء بهوى ذاتي، دون أن تجد من يقف في طريقها ليحاول أن يعدل من صورة الواقع الجديد، وهي مقلوبة على أية حال في ظل سيادة نصوص غير قادرة اجتذاب الآخر لغيابها عن التفاعل مع همومه وقضاياه.


 عماد الدين البليك مايو 2003. 
 

_____________________________
 الخريف يأتي مع صفاء

بالفعل .. ليست مجرد رواية .. تلك التي أطلعت عليها بالصدفة فأسهرتني ليال وأرهقتني حد الذوبان في فضاءاتها .. هذه الرواية التي تحتفل بالإنسان .. بوجعه الدامي .. شبقه للسلطة .. تحتفل بحيوات المهمشين الذين يعيشون في الظل تحت رمضاء العمر .. أولئك الذين يعيشون في الهامش ولا ينطقون .. بل تتحدث مكابداتهم .. رواية تحتفل بالعادات والتقاليد .. تحتفل بالأرض التي تعاني من " الجفاف " كل أنواع الجفاف .. سواءً ما كان بسبب انحسار المطر .. أو ما كان بسبب المعاناة والتغيرات السياسية والإجتماعية التي تترك الروح مجرد صحراء قاحلها بوار !!
مع كل ذلك احتفظ كاتبها الروائي السوداني المهاجر " أحمد الملك " بخيط رفيع من السخرية من أول الرواية إلى آخرها .. مع براعة نادرة في تحريك الشخصيات إلى عوالم مدهشة .. وبالطبع لن أنسى ذلك السرد البديع .. وأشياء تكتشفونها لاحقاً
لن أكشف الكثير .. بانتظاركم لقراءة ممتعة وجميلة .. وأتحدى ( أكررها أتحدى ) إن قام أحدكم بقراءة الرواية لمرة واحدة فقط دون إتباعها بأخرى وربما ثالثة ورابعة .. !! 
 

القشوي - قاص سعودي
——————————————————————————–
 رواية  بيت في جوبا
سلمى الشيخ سلامة

بيت في جوبا رواية للكاتب السوداني أحمد الملك والذي يعيش في هولندا، أهداني نسخة من روايته أبان زيارتي الأخيرة لمدينة امستردام محل اقامته، ولم أبخل عليه في مطالعتها والكتابة عنها، لا أعرف هل سبق أن كتب عنها أحد أم أنها المرة الأولى التي يكتب فيها أحد عن تلك الرواية؟ على اية حال، سيكون لي عظيم الشرف أن أقدم للقارئ كاتباً شاباً قادم بقوة لعالم الرواية، حيث هي المرة الأولى التي أطالع فيها رواية سودانية منذ أمد طويل، ربما عدد من السنوات، رواية سودانية كاتبها سوداني يحكي عن عوالم سودانية ليست فنتازيا أو خيالية، بل أنها رواية من لحم ودم، فحين تبدأ في مطالعتها تحس أنك جزء من العالم الذي يتحدث عنه الكاتب في هذه الرواية، جزء من عالم الرواية الذي تحس انك نتاجه ولحمه وسداته. البداية، كانت في الجنوب الجغرافي للسودان، النهاية في الشمال الجغرافي للسودان، إذاً نحن في عالم روائي يمثل الشمال والجنوب، كل جهة لها أناسها الذين يمثلونها لكنهم للغرابة والحقيقة في آن معاً من كلا الجهتين، من الشمال ومن الجنوب، حكاية عادية، تحكي عن تجار عاشوا وتزوجوا في الجنوب من بنات تلك الناحية، ورزقوا بأولاد وبنات، لكن شاءت أقدارهم أن يعودوا إلى حيث مساقط الرأس، في الشمال، وهذا ما كان من أمر ابطال هذه الرواية.. فهو عالم يجتمع فيه الحب والحرب والحياة والموت، الاسطورة فى اسمى تجلياتها "أليك الجميلة التي تحولت الى ماء عند اول لمسة من يد رجل" وهى ثيمة ملازمة في هذه الرواية منذ أولها إلى آخر سطر فيها .. شخوص الرواية لاتعرف لهم ملامح محددة، فسحناتهم لا تبين في متن النص، فهى اسماء فقط "أشول، نورالدين، سميرة، الخ "ونور الدين أحد أبطال الرواية لكنه غير محدد الملامح نعرف عنه ما حدثنا به الراوي عنه حين قال "في الركن البعيد من حديقة البيت، جوار شجرة المانجو في نفس المكان الذي جرح فيه قبل سنوات حين كان يطارد النسناس الاخضر الذي أهدته له جدته لكنه هذه المرة كان مربوطا في شجرة باباي وحوله جنود يتأهبون لاطلاق النار ـ ص ـ 7" لكننا لانعرف لونه، طوله، كم يبلغ من العمر؟ لون شعره؟ إلى آخر أوصاف المدعو نور الدين… فقط هو نور الدين ابن أشول..! اشول نفسها لاندري ماهى ملامحها ؟وبالتالي لانعرف عن محمد عثمان عبد الدائم وأولاده الذين كان أحدهم نور الدين وهكذا نحن أمام شخوص بلا ملامح سوى ملمح الاسم فقط، في نفس الآن كان ينحوـ الكاتب ـ إلى توصيف دواخلهم بتركيز ودقة كأنما هو معني بالدواخل دون الملامح الخارجية. سميرة عبدالرحمن احدى شخصيات الرواية المحورية، لكننا نتعرف عليها فقط بالاسم ونعرف حركة وجدانها تجاه خطيبها وابن عمها نور الدين الذي لم نره قط سوى في تلك اللحظة التي وسمها برؤية والدته له كآخر مرة نراه فيها مع اهله ..! وهو مجرد ذكرى تتطاير فى القلوب من الام الى ابنة العم .. فى حديث من الذكريات يسحبوننا اليها .. للرواية عدة مدارات ، مدار تبدأ به ، ومدار تمضى اليه عبر سمل وبدر وسميرة ومصطفى في الجنوب وانتقالهم إلى قريتهم فى الشمال والتى تبدأ منها الرواية بدايتها الثانية، حيث تتم الهجرة من الجنوب إلى الشمال.. تستحق هذه الرواية القراءة فهى تؤرخ للقمع العسكري من ناحية، ومن ناحية اخرى تحاول الى اضاءة عتمات ما خلف الستار حول المعارك الحربية التي خسرت فيها البلاد ثروات وارصدة بشرية لاتحصى… من خلال محاربين شماليين/جنوبيبن، وخليط بين الاثنين حيث بعض المقاتلين يحملون دماء من كلا الجهتين الجغرافيتين. الصبر وهي ثيمة نجدها ملازمة لسميرة احدى أهم شخصيات هذه الرواية والتي تحاول دائماً إلى جمع شمل هذه الاسرة المنكوبة بل التعيسة التي تفقد كثيرا من ابنائها بالحروب او السفر … وهى فوق كل ذلك شخصية نحمد للمؤلف أن جعلها بطلة غير قابلة للهزيمة حتى آخر لحظات الرواية وحياتها من ثم، فهى تجعل من نفسها حامي حمى البيت في غياب الاب والعم وابناء العم، وتظل قوية حتى في أحلك لحظاتها الحيايتة واكثر لحظات الضعف الانساني… ثمة ملاحظة حول اللغة واستخدامها، فهناك بعض الجمل التي نرى أنها مقحمة بالنص، حتى إذا ما حذفتها لن يتأثر النص بحضورها أو غيابها، فهى نوع من اللغة هجرها عرابها إن صحت التسمية "جاببريل غارثيا ماركيز منذ كتابه ـ خبر اختطاف ، وما تلاه ـ عاهراتي الحزينات ثم اخيراً عشت لاورى" فمثل هذه اللغة لم تعد تغوي القارئ بل هى خصم على النصوص التي ترد في متنها، أنظر الى هذه التراكيب في الجمل ـ لاينم مظهرها وهى تدير بحزم كل شؤون البيت عن القلق الذي يأكل دواخلها مع وقع خطوات الكارثة الوشيكة التي تشعر بها في صوت الريح الراحلة في صمت أمسيات الخريف في غناء عصافير الحب فوق أشجار المانجو تبدل كل لحظة أشواقها لتضلل الحنين الذي ينصب شباكه الناعمة من حولها ـ ص 15" في حين انه ـ الكاتب ـ يتدفق شاعرية دون الاحتياج لمثل هذه اللغة غير المفهومة، بل أنها تضلل القارئ في مسار تتبعه للرواية وتدفعه للملل. في الفصل الأخير للرواية نجد الكاتب يكتب بلغة مفهومة تلقائية حتى نكاد نجزم أن الكاتب للفصل الأخير هو غير الكاتب للفصول الأخرى التي جاء فيها مثل تلك اللغة غير المفهومة. لكنها رواية بنهاية الأمر تؤرخ لحقب تاريخية طويلة من تاريخنا الحديث منذ ماقبل الاستقلال وحتى الآن. تقع الرواية الصادرة عن دار الحضارة للطباعة والنشر في 201 صفحة من القطع المتوسط . شكراً لك أحمد الملك الذي أمتعني بهذه الرواية.
 
نقلا عن أجراس الحرية
 
 
 
 
في «نورا ذات الضفائر»
الملك يفاجئ قارئه بأسلوب كتابة جديد
 
بقلم: عثمان شنقر
 
يُعدُّ كاتب هذا الكتاب واحداً من الكتاب الشباب، الذين نشطوا في حقل الكتابة السردية، سواء على مستوى الرواية او القصة القصيرة.. ظهرت اولى اعماله المنشورة في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، ابان نشر دار النشر بجامعة الخرطوم لباكورة انتاجه الروائي الموسومة بالفرقة الموسيقية، والتي كتب لها مقدمتها القاص الكبير بشرى الفاضل، مبشراً بمولد كاتب جديد، مشيراً الى ان العوالم والفضاءات التي يتحرك فيها هذا الكاتب اقرب لعوالم الروائي العالمي قابريال جارسيا ماركيز، الا ان بشرى استدرك بالقول إن هذه هي حساسية من هم في جيل هذا الكاتب الشاب.
وبعد ذلك توالت أعماله في الظهور، فظهرت روايته الثانية في عام 1956م بعنوان: «عصافير آخر أيام الخريف» صادرة عن دار الخرطوم للطباعة والنشر، وبعدها هاجر الى هولندا، حيث تمكن هناك من نشر مجموعة قصصية بعنوان: «الموت السادس للعجوز منوفلي»، صدرت عن دار الأهالي في دمشق قبل اكثر من اربعة اعوام. وبعدها نشر روايته الثالثة التي جاءت بعنوان: «الخريف يأتي مع صفاء».. وهذه الرواية تمثل نقلة كبيرة في تجربة هذا الكاتب، حسب آراء النقاد، خصوصاً انه تخلص من تلك الجملة الطويلة التي كانت تسم اعماله الباكرة. وفي هولندا تمكن الكاتب السوداني الشاب المولود عام 1967م من المشاركة في عدد من الفعاليات الثقافية هناك، توجها بفوزه بجائزة صورة العالم للقصة عن قصته الموسومة «المشير يبحث عن بيته» في شارع الأرامل، وهذه القصة كانت بمثابة نواة لرواية: «الخريف يأتي مع صفاء».
أما كتابه الأخير الذي صدر قبل اسابيع قليلة في الخرطوم عن دار عزة للنشر والتوزيع، والذي جاء تحت عنوان «نورا ذات الضفائر وقصص اخرى» فإن أحمد الملك الكاتب السوداني الشاب المهاجر بهولندا منذ اكثر من سبع سنوات والمولود في مدينة ارقو بشمال السودان، لا يفاجئ القارئ الذي تعود على عوالمه وفضاءاته واسلوبه في الكتابة، انما يكتشف- هذا القارئ- ربما بفرح شديد، ان أحمد الملك مازال يواصل مسيرته الابداعية بدأب وحرص شديدين.
جاء هذا الكتاب في «175» صفحة من القطع المتوسط، محتوياً على «15» قصة قصيرة تتراوح القصة بين «4» صفحات الى «8» صفحات، عدا القصة الأولى التي حملت اسم الكتاب، وهي قصة «نورا ذات الضفائر»، فهي كانت طويلة نسبياً، الشئ الذي ربما يجعل النقاد يقومون بتصنيفها باعتبارها رواية قصيرة، اذ احتلت نصف الكتاب في عدد صفحات يربو على اكثر من سبعين صفحة.
وفي قصة «نورا ذات الضفائر» يفاجئ الملك قارئه باسلوب كتابة جديد عليه نوعاً ما، اذ يلاحظ القارئ ان هناك مساحات كبيرة للحوار بين شخصيات القصة، الشئ الذي لم يكن معتاداً عليه في كتاباته السابقة.. وفوق هذا فإن الحوار باللغة المحلية الدارجية السودانية.. لغة شمال السودان- وهذا شئ جديد على الكاتب، لم يتطرق له في كتاباته السابقة الا في مرات نادرة وبايجاز شديد. أما في هذه القصة فإن الحوار يستحوذ على كل المساحات في القصة ويكاد يتغوَّل كثيراً على عنصر الوصف والسرد التفصيلي الذي برع فيه كاتبنا. ويبدو أنه فعلاً اراد التنويع في اسلوب كتابته الذي كان يعتمد على الوصف وسرد الاحداث والتفاصيل بصورة تفصيلية دقيقة. ربما هذا هو خيار الكاتب في اسلوب جديد للكتابة، وربما تمت المسألة عفواً.
على العموم فلنتوغل قليلاً في اجواء الكتاب الاخرى، حيث مازالت هناك مجموعة من القصص القصيرة من بينها «انقلاب في منتصف النهار، اليوم يوم زفافي، رحلة عبد القيوم الاخيرة، أغنية تمجد الشمس والغرباء، ساعود حين يفيض النهر، الكلب بوبي، والدبابة» وغيرها من القصص التي تحفل بها مجموعة أحمد الملك القصصية الاخيرة.
ومن الملاحظ أن عناوين بعض القصص تنحو منحى شعرياً مثل: «سأعود حين يفيض النهر، او قصة أغنية تمجد الشمس والغرباء»، والبعض الآخر من القصص يحمل عناوين عادية محايدة ربما، وطريفة في بعض الاحيان، وصادقة في أحيان اخرى.
من أطرف قصص هذه المجموعة قصة الدبابة التي لا تتجاوز صفحاتها الـ 6 صفحات، بطلها اشترى دبابة من سمسار يقطن بالقرب منه. ويقول الراوي ان معارفه اصابتهم الدهشة «حين وجدوها رابضة تحت شجرة النيم أمام بيتنا». اذ لاحظ ان معظمهم كفوا زياراتهم باعذار مختلفة.
وهناك مشهد طريف في هذه القصة، اذ يقوم الراوي الذي لا اسم له ويحكي بضمير الأنا، بعملية غسيل وتشحيم الدبابة في الشارع امام الملأ… ولكنه «الراوي» يقول «في الأيام التالية لشرائنا الدبابة، لاحظت تحسن الخدمات التالية: فقد أصبح الجزار يعتني باعطائنا افضل ما عنده، بدلاً عن العظام التي كان يبعث بها الينا، كما أن الكهرباء لم تنقطع ولا مرة واحدة منذ توقفت الدبابة اسفل شجرة النيم امام بيتنا، فيما كل جيراننا يرفلون في ظلام شامل، حتى ان زوجتي عزت للدبابة بركات كهربائية، كما لم تنقطع المياه عن البيت منذ وصول الدبابة، ولان بيتنا كان الوحيد الذي ينعم بهذا الرخاء المائي، فقد اضطررنا للوقف طوال اليوم انا وابنائي الثلاثة لتنظيم صف الجيران الذين تقاطروا للحصول على الماء».
ولكن من أكثر المشاهد طرافة في هذه القصة، ذلك المشهد الذي قام فيه الراوي بقيادة الدبابة في الشارع العام، وأحدث مرورها في ذلك الشارع هلعاً ارتجالياً، وهذا امر طبيعي، اذ اعتقد البعض بوجود تحرك انقلابي، وتمضي الدبابة متهادية به في الشارع حتى يستوقفه شرطي ويقوم بفحص اوراق الدبابة ورخصة قيادتها، وفحص اشاراتها، وعندما تأكد الشرطي ان في الامور اموراً، يطلق صيحة: «تفضل سعادتك»، سامحاً له بالمرور.
وفي القصة طبعاً حس درامي طريف ومفارقات كثيرة. وهذا دأب أحمد الملك في الكتابة فهو- دائماً- يقتنص اللحظات الغريبة والمدهشة في الحياة التي تمر بالناس كثيراً، دون ان يتوقفوا عندها طويلاً.
وأحمد الملك في كتاباته عموماً مشغول كثيراً بالتحولات السياسية والاجتماعية في المجتمع السوداني، والتحولات الاقتصادية وتأثيرها على الإنسان السوداني سلباً وايجاباً. ومن خضم هذا المحيط الواسع للمجتمع، يلتقط الملك شخوصه بعناية فائقة، ليترجمها إلى قصص وروايات رائعة
 
 
 
__________________________
 
 
د. بشرى الفاضل
 
الطفلان والحب والفقد في قصة أحمد الملك الشيطان وعسكري البلاستيك
 
 
 
 
 
تحت عنوان: (الشيطان وعسكري البلاستيك) نشر الكاتب أحمد الملك قصة قصيرة في أحد المنتديات الإلكترونية السودانية (الراكوبة) تبدأ القصة بالحيوية الدافقة التالية:
 
«عشية عيد الفطر كنا نتحلق حول والدتي في الفناء وهي تغسل كومة من الملابس على ضوء مصباح الزيت، سمعنا صوت نهيق حمار يمزق صمت الليل. قال أخي ، انه حمار جارنا سيد، وصمت قليلا قبل ان يتذكر شيئا: هذا الحمار معتاد على قطع رباطه والاعتداء على مزارع الآخرين لابد أن شخصا ما يقوم الآن بضربه!
 
قالت أمي: هذا ليس حمارا .. انه شيطان!
 
قلت: ألم يتم حبس كل الشياطين في رمضان؟
 
قالت أمي: «نعم لكن مساء اليوم الأخير في رمضان يعاد إطلاق كل الشياطين».
 
من الافتتاحية نلحظ أن الراوي يقول « كنا نتحلق» مما يعني أن هناك أكثر من شخصين لكن الراوي سرعان ما يكشف لنا أن مرافقه طوال قصته هو شقيقه الأكبر وهما معاً طفلان .الراوي لم يدخل المدرسة بعد وتخيفه حكايات الشياطين نحن إزاء طفلين فقدا الأب قبل فترة بحيث أن العيد الذي حل سيكون هو العيد الثاني الذي مر على فقده.
 
القصة تصور على لسان الطفل الأصغر أساليب الوالدة المتخذة لحمايتهما وحبها لهما وفقدها / فقدهما لوالدهما. الحوار يجري بالفصحى ، واعتقد أن الكاتب وفق فيه هنا حيث إن الأحداث المستدعاة من الذاكرة تظهر كيف أن الطفل الصغير يضفي قداسة على أمه ولذا فالفصحى مبررة في الحوار.كل ما تقوله الأم يجد أذناً صاغية منهما. طفلان لا حيلة لهما في مساعدة الأم الوحيدة الفقيرة « يوم العيد الماضي حين ذهبنا للمرة الأولى لزيارته(زيارة قبر الوالد) لم تكن سوى بضعة أشهر قد مرت على وفاة والدي. في المقبرة كنا أول الواصلين، كان هناك عدد كبير من الصبية يلبسون ملابس العيد البيضاء الجديدة، كنا أنا وأخي نلبس ملابس قديمة أصلحتها والدتي لكنها كانت نظيفة وناصعة البياض كأنها جديدة
 
الجملة الأخيرة من الفقرة تظهر رأي الطفل فيما تفعله والدته من أداء حسن لرعايتهما :فالملابس القديمة نظيفة وناصعة البياض كأنها جديدة « هذا بالضبط يعني: « أمنا حريصة ومتقنة لعملها».
 
كنت كتبت في تضاريس (74) في تناولي لقصة «الطفلان وباتريشيا» لعبد العزيز بركة ساكن وهي أيضاً قصة بلسان طفل راوٍ ويستخدم لوظائف القصة المختلفة مساعداً له هو أيضاً شقيقه الأكبر أن الشخصيات في القصة كما في الحكاية الخرافية وفقاً لمنهج الروسي فلاديمير بروب ليست مهمة أهمية الوظائف . وسنعرض في الحلقة المقبلة لوظائف القصة الحالية « الشيطان وعسكري البلاستيك».
 
استخدم كل من أحمد الملك وعبدالعزيز بركة الشخصية الثانوية الطفل الاكبر، عبدالعزيز اظهر عفرتة شقيق الراوي وحساسيته العالية تجاه الخطر وأحمد أظهر حكمة شقيق الراوي وشجاعته حد التهور .كلا الشقيقين في القصتين إنما عبر عن حيلة بارعة من الكاتبين بدلاً من وضع كل الحكمة على لسان طفل واحد صغير يفترض فيه البراءة.
 
القصتان تتحدثان عن الحب .طفل عبدالعزيز الراوي أكبر سناً من راوي أحمد الملك ولذا استمتع باكتشاف البراعم الأولى لشجرة تابو مجهولة لديه اسمها الجنس .أما الطفل في قصة أحمد الملك فعبر لنا عن الحب لوالدته ووالده مع الفقد الهائل الذي يحس به جراء موت الوالد.يمكننا القول إن كلتا القصتين كانتا في الحب لكنه حب كان في كلتيهما بمعية.
 
(نواصل)
 
 
 
 
 
 
 
من وظائف قصة أحمد الملك
 
 
 
 
 
هذه الحلقة من تضاريس هي امتداد للحلقة السابقة التي تحاول سبر غور قصة الكاتب الروائي أحمد الملك القصيرة التي جاءت بعنوان « الشيطان وعسكري البلاستيك».سأحاول هنا إعمال منهج فلاديمير بروب عن الوظائف كما فعلت سابقاً في قصتي «حفنة تمر « للطيب صالح و» الطفلان وباتريشيا» لعبدالعزيز بركة ساكن.وقد تحدثت عن فلاديمير بروب ومنهجه في حلقة باكرة من تضاريس أيضاً.
 
يعرف فلاديمير بروب الوظيفة (Function فونكسيا بالروسية) في كتابه « مورفولوجيا الحكاية الخرافية» فيقول:
 
«هي العنصر أو الوحدة التحليلية النهائية في الحكاية الخرافية، وهي العنصر الوحيد الثابت في تلك الحكاية وتفهم على أساس فعل شخصية وتعرف من وجهة نظر أهميتها لسير العمل»
 
يقول بروب إن منهجه يمكن تطبيقه على الحكاية أية حكاية فلا يشترط قصره على الحكاية الخرافية فحسب وهي الحكاية التي يدخل فيها السحر والتحويلات. وأعتقد ان بروب محق. وكنت ولأغراض البحث أقوم باختزال القصص المعنية فيما اسميه الكبسلة أي سحب الماء عن القصة وتركها في حالة صلابة .وهذه الطريقة لا ترضي الكاتب قطعاً ولا ترضي القاريء لكنها بالنسبة لي ضرورية لعمل الوظائف.. حسبك أن تعتبر القصة هنا معتقلة اعتقال كائن في معمل لأغراض التشريح والفرق بينها وبين الكائن أنه يموت بعد التشريح بينما القصة ستظل حية خارج المعمل وفي متناول جميع الأعين الفاحصة بأمل أن تكون رؤيتهم لها بعيون جديدة وهذه بالضبط فيما أزعم ويزعم غيري هي فائدة النقد.
 
لأغراض النقد إذاً أحاول كبسلة قصة «الشيطان وعسكري البلاستيك» فيما يلي:
 
الشيطان و عسكري البلاستيك
 
الأم تغسل كومة من الملابس ليلة العيد . أطفالها حولها . تسمع نهيق حمار فتقول هذا ليس حماراً إنه شيطان.جعلها تذكر الشيطان تأمرهم بأعداد مبخر.فرصة للأخ الأكبر لاستخراج الألفاظ النابية ضد الشياطين وهو يطردهم بالبخور . غداً صباح العيد تقول الأم تزورون قبر الوالد وتغرسون عليه جريد النخل. كان الأخ الأكبر قد سأل في العام الماضي لماذا جريد النخل؟ فقالت الأم سعف النخل اللين يوقف عذاب الآخرة . الأخ الأكبر يسأل سؤالاً جديداً لماذا لا نزرع نخلة؟ تقول الأم يجب ان تصبح كل الملابس المتسخة في البيت صبيحة العيد نظيفة.. الراوي أصبح باله مشغولاً بمسألة الشيطان التي روعتهم بها الأم.المبخر لطرد الشياطين امتد بواسطة الطفلين الراوي وأخيه الأكبر إلى المخزن وهو مربط الفرس في القصة.فما أن دخلاه حتى بدأ العالم السحري والتحويلات في القصة حيث شاهد الطفلان مشاهد عجيبة مسحورة خلال ضوء شمعة .وشاهدا والدهما وحاولا اللحاق به. الراوي صار يحكي بلسانه ولسان أخيه. تحول الأمر إلى حلم .وجد الراوي الدمية البلاستيكية (عسكري البلاستيك) ينتهي المشهد العجيب بإظهار أن الطفل الراوي كان نائماً.
 
«قالت الأم : هل ستنامان يوم العيد حتى تشرق الشمس؟، انتبهت عندها إلى بيتنا ورأيت الدمية الضائعة للعسكري الذي يتأهب لإطلاق النار ترقد جوار صدري».
 
انتهت الكبسلة الفجة.
 
إن حاولنا طرح الشخصيات جانباً والتقليل من أهميتها كما يفعل بروب في حكاياته الخرافية وأمسكنا بالوظائف فإننا سنجد هنا وظيفة « المنحة « أو الهدية كما في الحكايات الخرافية متمثلة في « المبخر» و» الدمية البلاستيكية» وهناك وظائف أخرى كوظيفة عناية الأم متمثلة في « غسيل الملابس وجعلها كالجديدة» ووظيفة الوفاء متمثلة في جريد النخل ووظيفة المخاوف متمثلة في الشيطان. ووظيفة الفقد متمثلة في» الشمعة المنيرة «.
 
فيما يتعلق بوظيفة « المخاوف» نجد أن الطفلين في حالة حوار دائم مع ما تقوله الأم فيما يتعلق بالشيطان. يضع الراوي على لسان أخيه الأكبر لقطات ذكية عن سخريته من الشيطان:
 
الشتائم غير اللائقة تجوز للشياطين.
 
المخزن خير مكان بالبيت لوجود الشيطان لأن به تمراً وهو بعيد عن دوشة الجيران.
 
الملاحظ أن معظم المعلومات عن الشيطان الواردة في النص تجيء من الأم أو هي محالة إليها في قول الراوي ومساعده . لكن الأخ الأكبر أضاف معلومات جديدة فيما يتعلق بأماكن وجود الشياطين:
 
الشياطين تعيش في الأشجار الكثيفة وتحب الهدوء وتعيش في البيوت المهجورة، أما الراوي فكل معلوماته عن الشياطين تجيء من الأم:
 
الشياطين تحب الشجار لأن أمي قالت حين تشاجر جارنا مع زوجته إن الشيطان دخل بينهما.. وبقية السرد السابق في أول القصة عن الشيطان الحمار، وطرد الشياطين من البيت بواسطة المبخر؛ وإطلاق الشياطين في اليوم الأخير من رمضان. لكن الطفل الراوي على حداثة سنه أضاف جملة عن الشيطان الذي أتي بلعبته البلاستيكية حين رد على والدته بأن الدمية أتي بها الشيطان و سألها:
 
هل توجد شياطين طيبة؟
 
إن وظيفة المخاوف المعبر عنها بشخصية الشيطان تجيء أساساً من الأم ليس بقصد سيء فهي تحب أبناءها ولكنها عبارة عن إعادة إنتاج للثقافة السائدة في القرية، فالكاتب كان سيقدم على مخالفة للواقع إن رسم الأم بخلاف ذلك. لكن هذه المخاوف لها أغراض تربوية خفية فهي من جهة تلم الأطفال ليلاً في البيت ومن جهة تجعلهم يحرصون على عدم الاقتراب وهم أحداث من حيوانات وكائنات ربما ترفسهم إن لم تمسخهم.
 
 
 
 
 
في القصص الصور الفنية تكشف عن الوظائف 
 
 
 
 
 
يرسم الكاتب احمد الملك صوراً فنية موفقة في نظرنا في قصصه حين يشرع في رسم شخصيات تلك القصص ومن ذلك صورة الأم المشغولة بالغسيل ليلة العيد. الملابس في هذه القصة جاءت في صور قصد بها الكاتب في ظننا إعطاء القارئ انطباعاً بأن هذه الأم حريصة، فائقة العناية بأطفالها. ومع ذلك فتنسرب مع الامتنان لدى شعورالاطفال - ونحن هنا معنيون بالراوي وشقيقه الاكبر الذي يكبره بعام - تساؤلات حول المخاوف التي تبذرها الأم في مخيلتيهما الصغيرتين.
 
إزاء وظيفة الملابس لا يملك الطفلان على لسان شقيق الراوي إلا أن يطلبا من الأم السماح لهما بمساعدتها. أو أن تكف عن الغسيل. لكن الأم ترفض المساعدة فلا تسمح لهما بعمل شيء سوى أن يحمل الطفلان المبخر»الهدية» التي ربطنا بينها وبين وظيفة المخاوف في الحلقة الماضية. أما الملابس وهي عندي جاءت لتعني وظيفة الحرص، حرص الأم وحذقها في العناية بأطفالها.
 
كنا نتحلق حول والدتي في الفناء وهي تغسل كومة من الملابس.
 
فوجدت أنها تفكر كيف ترد على كلام أخي لكنها انشغلت بغسيل الملابس.
 
- (صباح العيد)… كان هناك عدد كبير من الصبية يلبسون ملابس العيد البيضاء الجديدة. كنا أنا وأخي نلبس ملابس قديمة أصلحتها والدتي لكنها كانت نظيفة وناصعة البياض كأنها جديدة.
 
قال أخي سننتظر معك حتى تنتهي من غسيل الملابس.
 
قالت أمي إن ذلك يستغرق وقتاً طويلاً ولا داعي للانتظار.
 
طلب منها أخي أن تتوقف عن غسل بقية الملابس لتكملها في وقت آخر.
 
لكن أمي قالت إنه يجب أن تصبح كل الملابس المتسخة في البيت صبيحة العيد نظيفة. وإلا فسنصبح بملابس متسخة حتى العيد القادم.
 
فكر اخي بصوت عال: ما دام بإمكاني اللعب طوال العام دون أن تتسخ ملابسي فإن ذلك يستحق بعض التعب؛ عارضاً على والدتي مساعدتها في نقل الملابس التي فرغ غسلها لتعليقها على حبل الغسيل لكن والدتي طلبت منه أن يعيد الطواف في البيت بالبخور.
 
طفلان الأكبر يسبق الآخر بعام هو شقيق الراوي وقد دخل المدرسة وبما أن الطفل الراوي لم يدخل المدرسة بعد فيكون الأخ الذي يكبره في الصف الأول. الشقيق الأكبر ليست لديه وسيلة لمساعدة الأم فما عرضه من عون ممكن رفضته الأم.
 
وبذا تكشف وظيفة الحرص عن الأسى في خلد الطفلين إذ لا يمكنهما فعل شيء لتخفيف عبء ما تحمله الوالدة على كاهلها. ويمكننا تقسيم وظيفة الحرص على حركتين ففي الحر العيد. لى المنطلقة من قبل الأم يعتبر غسيل الملابس ضرورة.لابد من أن تصبح جميع الملابس نظيفة قبل صبيحة العيد. وفي الحركة الثانية فكل اقتراحات الطفلين الرامية لتخفيف العبء عن الأم مرفوضة فهي لن تتوقف عن الغسيل ولم توافق على أن ينتظرا معها حتى ينتهي الغسيل كما رفضت فكرة تركه لوقت آخر ورفضت أن يساعدها الأخ الأكبر بنشره. وهكذا نرى أن الأم وهي المدركة لضرورة الحرص تقوم بصد كل محاولات الطفلين بالتدخل في حركتهما العائدة من أجل تخفيف عبء هذا الحرص. وهكذا تكشف لنا الصور الفنية عن وظائف القصة ويمكننا لايضاح هذا الأمر أكثر عرض الكيفية التي تعمل بها الصور الفنية في الكشف عن وظائف القصة التي يرمي إليها الكاتب.
 
سبق لي في حلقة باكرة من» تضاريس» أن قدمت دراسة مشابهة على نفس المنهج لقصة «حفنة تمر» للطيب صالح. حفنة تمر هو عنوان القصة وورد في متن القصة «قبضة تمر» أيضا لتعنيها وقد استخدم الكاتب المفردتين»حفنة، قبضة» لسببين في نظرنا أولاً للإبانة، وثانياً لتفادي التكرار. وفي حسباني أنّ (حفنة تمر) وظيفة حسب منهج فلاديمير بروب وهي تعادل الهدية أو المنحة في الحكايات الخرافية حين يعطي وسيط ما (عجوز في الطريق، بطة ، غزال إلى آخره) البطل هدية (مثلاً شوكة سدر) في حكاياتنا الخرافية السودانية فتنبت للبطل غابة يتفادى بها طراد الغول أو أي شرير آخر أو (بابا ياقا)، كما في الحكايات الخرافية الروسية. ولكي ننظر في استخدام هذه الوظيفة في القصة علينا أن نقسم القصة نفسها لحركات. ففي الحركة الأولى فيما يتعلق بهذه الوظيفة ولنسمها حركة الذهاب يعطي الجد حفنة التمر للطفل فيشرع هذا في أكلها. وفي الحركة الثانية فيما يتعلق بهذه الوظيفة ولنسمها حركة الإياب يدخل الطفل إصبعه في فمه ليتقيأ التمر الذي أكله. هكذا تتحول وظيفة الهدية من حالة كونها أداة سحرية في الحكايات الخرافية (شوكة - غابة، طينةــ بحر) إلى هدية واقعية لكن لها مفعول السحر في بناء القصة باعتبارها عملاً إبداعياً فردياً.
 
والوظائف في القصص القصيرة تصاغ عادة في صورimages فالتعبير عن حب الطفل لمسعود وتعاطفه معه نجده في الوظائف الواردة في النص بالصور التالية:
 
تذكّرت غناء مسعود وصوته الجميل وضحكته التي تشبه صوت الماء المدلوق.
 
أخذت أفكر في قول مسعود «قلب النخلة».
 
تذكرت قول مسعود «النخل يا بني كالآدميين يفرح ويتألم».
 
وشعرت بنفسي اقترب من مسعود.
 
وشعرت بيدي تمتد إليه كأني أردت أن ألمس طرف ثوبه.
 
وثمة صور أخرى عن مسعود المقصود بها وظائف أخرى ومن ذلك أحزانه الداخلية والفقد.
 
يمضغ القصبة مثل شخص شبع من الأكل وبقيت في فمه لقمة واحدة لا يدري ماذا يفعل بها.
 
يملأ راحته من التمر ويقربه من انفه ويشمه طويلاً ثم يعيده لمكانه.
 
وسواء كان الأمر في قصة حفنة تمر للطيب صالح أو الطفلين وباتريشيا لعبد العزيز بركة ساكن أو الشيطان وعسكري البلاستيك لأحمد الملك أو أيّة قصة أخرى فإن الصور الفنية يتم اختيارها بما يجيء في خاطر الكاتب لحظة التليف ويبدو أن الكاتب يوازن ليختار أفضل الصور التي تبرز الوظيفة المعنية. فلإظهار حرص الأم كان يمكن لأحمد الملك اختيار صور أخرى ومن الأداء الإنساني الواسع ففي وسع الكاتب رسم صور لا نهائية محكومة ببيئة ووعي الأم من ناحية لكن محكومة من ناحية أخرى بخرات الكاتب وقدراته وخياله فيما يتعلق بإقناع القارئ المتخيل وربما مزاجه أيضاً وهذه منطقة تتطلب التوقف عندها كثيراً وسبر غورها، لكن حسبنا هنا ما أوردناه.
 
في القصة مشهدان في ظننا غير متسقين مع بعضهما فيما يتعلق بالزمن. فالطفل الراوي لم يدخل المدرسة بعد ان شعر بالخوف، سأبدأ بالذهاب للمدرسة قريباً، لا مشكلة صباحا سأذهب مع أخي لكن عند العودة يجب أن أعود وحدي لأنني سأغادر المدرسة مبكرا وسأقطع طريقا مليئا بأشجار كثيفة سمعت من أخي أن الشياطين تسكن فيها لكنه قبل ذلك بسنوات كان يلعب في شوارع القرية بكرة الشراب وهي ممارسة لأطفال اكبر سناً، كان حقا أبي عرفناه من ملابسه، أشار لنا بيده بنفس الطريقة التي كان يدعونا بها للعودة إلى البيت حين كنا نلعب في شوارع القرية قبل سنوات مع الأطفال بكرة الشراب، جرينا نحوه حتى انقطعت أنفاسنا، وفي القصة تجريد في ظننا أنه شبيه بلغة شباب الجامعات وضعه الطفل الراوي دون الثامنة على لسان أمه:
 
قالت أمي: لا حاجة لأحدهم لسرقة جنودك البلاستيكية.
 
وبعد ،فقصة « الشيطان وعسكري البلاستيك» قصة رائعة لأحمد الملك مثل الكثير من كتابات هذا الروائي الشاب.
 
 
 
 
 
نقلا عن صحيفة الرأي العام
 
www.rayaam.sd
 
أحمد الملك ورواية جديدة
 
 
 
بقلم د. هاشم ميرغني الحاج
 
 
 
نظرة اولية لساحة المشهد النقدي يمكنها ان ترصد بسهولة ندرة وفقر الخطاب النقدي المتابع لهذا الجيل الذي بدأ وضع بصماته بارزة علي الخطاب الادبي السوداني منذ بداية التسعينات، فرغم تراكم المنجز الابداعي لهذا الجيل التسعيني، فلا زال هذا الجيل يحفر دروبه في صمت. يفتح طرائق جديدة في الرؤي واللغة والسرد، منقبا عن صوته الخاص غير المستنسخ من اسلافه، يمتاح من تربة الناس والحكايات، وغربة الروح المهددة بالنزوح، والمفازات الخفية التي تفضي لباحة وطن لا ينحني في الملمات الصعيبة، مكتشفا دون مساعدة من أحد تقريبا، الأنفاق السرية للغة تشيد عوالمها الجديدة المغايرة للسائد والمستهلك، والمعفرة في الوقت نفسه بهموم الناس وعرقهم، هذا الجيل التسعيني او جيل الهامش وللمصطلح حمولته المعرفية التي لن نتطرق اليها هنا ( الصادق الرضي، عاطف خيري، عثمان بشري، عفيف اسماعيل، عثمان شنقر، الطيب برير، نصار الصادق، فتحي البحيري، محمد الصادقن جمال غلاب، خالد عباس.. الخ. لا زال يواصل فتوحاته تقف امامه اشكالات النشر الحادة، وزمن مسكون بما لا يقال.
 
هذه المقاربة النقدية تسعي لاطلالة اولية علي الخطاب الروائي لاحد اسماء الهامش التسعيني.
 
قدم أحمد الملك روايته الاولي الفرقة الموسيقية في اواخر عام 1991، حينها كتب د. بشري الفاضل مقدما: (… هناك أعين كثيرة ترصد جملة من الاحداث في علاقاتها. انها طريقة جارسيا ماركيز، الانتقال المباغت من حدث لاخر، من المحسوس للمجرد المعنوي. ولكن أحمد الملك لم ينتحل ذلك من جارسيا، انها حساسية من هم في عمره، فهو شاب يبشر بنقلة نوعية لفن القصة في السودان).
 
ملاحظة بشري النابهة لعلاقة احمد الملك بماركيز وجّست البعض من ان تقود تداخلات الملك وتناصاته مع ماركيز الي التيه في دروبه السحرية، ونبهت البعض ايضا الي تداخلات اخري لأحمد الملك مع ماركيز: الجمل الطويلة المتشابكة التي تنحرف فيها المفردة انحرافا مباغتا لتغرس جماليتها في افق القراءة، بروز المتخيل والاستيهامي كواقع يشحب بجانبه الواقع اليومي. امتلاك القدرة علي اذابة الفواصل المتوهمة بين الواقع والمتخيل.
 
يمكن لهذه القراءة ان ترصد ايضا تناصات اخري، وترد جذور بعض استيهامات الملك مباشرة الي ماركيز فتقارن مثلا الاختفاء المفاجئ للبحارة الذين اكتشف الراوي انهم القوا في البحر (الفرقة الموسيقية)، وبين اختفاء قطار الثوار (مائة عام من العزلة) ورفرفة عصافير ابو البشير حول فاطمة نور الصباح في عصافير اخر ايام الخريف، يذكر بمشهد الفراشات الصفراء المحومة حول احدي فتيات مائة عام. وطيران الاسماك الحمراء عبر نافذة شيرا المجنونة شبيه بطيران الفتاة نفسها بالملاءة في مائة عام من العزلة.
 
هذه التناصات لأحمد الملك مع ماركيز لم تمنعه من تأسي صوته الخاص المتفرد والمختلف، مشيدا دون ضجيج عالمه السردي الطالع من ذاكرة المدهش والمتخيل في روايته الجديدة عصافير اخر ايام الخريف الصادرة عن دار الخرطوم 1996.
 
التوقف عند عتبات النص الاولي، العنوان، تصميم الغلاف، الاهداء.. باعتبارها نصا موازيا للنص الاصلي كما اشار جيرار جينيت، لا يشئ بلبنات العالم الذي يشيده أحمد الملك، العنوان هنا : عصافير اخر ايام الخريف، لا يؤسس غواية للنص، بل يصادرها.. لا يشكل رحما خصبا عامرا باحتمالات التأويل. يرفض ان يكتسي تلك الاهمية الاستثنائية التي علقها عليه شعيب حليفي ( العنوان يكتسي اهمية استثنائية نظرا للتوجه البلاغي الجديد الذي يكسر هيمنة العنوان الحرفي الاستعمالي ليؤسس عنوانا تلميحيا الاستعارة فيه قطب استراتيجي يعمل علي استيلاد معان حاسمة داخل النص، كما تنجز معني باطنيا اخر يشكل النواة – البؤرة للعمل الادبي من خلال امساكه بمجموع النسيج النصي في تقاطعاته وتغذيته للقراءة والتأويل.
 
يرفض عنوان أحمد الملك ذلك، يكتفي بنمطيته وعاديته واهبا كامل الحرية للقارئ أن يقرأ الرواية بمعزل عن العنوان، الذي يشي في أحسن احواله بملمح رومانسي، عصافير| الخريف، حزين(اخر ايام) بمتن الرواية يعود أحمد الملك لتأسيس عالمه الخاص المتفرد مرسخا لبنات هذا العالم : البشر الطالعين من انحلال احزانهم لمهرجانات الغناء، فداحة الزمن المرتكز علي هشاشة فوضاه، والمنتهب بحدة بحبائل ذاكرة قصصية لا تكف لحظة عن اعادة تكسيره وتفتيته، تراكيبه الساخرة المتلبسة اقنعة جهامة خادعة، اختراقات الموتي، لحاجز الحياة الشفيف ليعودوا مرة اخري لممارسة نهمهم الحياتي اللامحدود، الجنون الاليف الذي يقود شيرا لاعداد عشاء خفيف من لبن الماعز للموت ( في محاولة لازالة الجفوة المفتعلة معه بتنمية اواصر هموم مشتركة).
 
علي صعيد المشهد السردي العام للرواية يمكننا ان نرصد:
 
ما من ايديولوجيا هنا تؤرق هاجس النص وتحرمه الركض في براري اللغة والسرد، ما من موضوعة مركزية تتسيد النص وتحتجز افق القراءة داخلها، وان كان من ايديولوجيا فذائبة في غضاريف اللغة بحيث لا تعود هي نفسها خارج النص، حيث يتجلي وعي حداثوي يستحيل معه تحديد أين تنتهي اللغة، وأين يبدأ المعني، وهذه احدي تجليات حداثة الرواية، فبحدسه الابداعي اكتشف أحمد الملك أن النص المنطلق من وقائع وهواجس بعينها ينتفي بانتفاء هذه الوقائع، ولذا فان فاطمة نور الصباح، شيرا، الطاهر، الزين.. يقدلون بكامل ابهتهم في باحة النص رافضين تحولهم رموزا يمكن فك شفرتها فينتفي بهاؤهم وديمومتهم.
 
لا يقدم المشهد السردي العام الكثير مما يمكن ان يحكي او يقص علي المستوي الافقي، اي مستوي الحكاية: البداية، الوسط، النهاية. انه يقدم النص| السرد في مقابل النص| الحكاية، بمعاول لغة طازجة يتكسر الزمن دون ان يترك للقارئ ما يمكن قصه تقليديا، تكتنز التفاصيل( لترصد جملة من الاحداث في علاقاتها، ويتطور الحدث في حركة من العلاقات الشبكية ترصد عدة أحداث) دون ان تعني بالتتابع السردي الأليف في ظل موضوعة مركزية مهيمنة.
 
يبرز الاستيهامي بقوة في هذه الرواية، لا يكتفي باذابة الحواجز بين المحسوس والمعنوي، بل بأسطرة اصغر مفرلادات الحياة اليومية، تنفتح حينها كائنات الحياة مثل وردة يسكنها حس اسطوري فادح فيمكن لشجيرات الفل ان تستخدم كحزام واق ضد رائحة الحزن الراكدة في المكان، والجاروف لاقتلاع النباتات التي تغذي جذوة انتشار الحزن، والمريسة لوضع حواجز اخري للنسيان امام سطوة السأم النهاري الناجم عن تكرار حوادث غير مشوقة.. ولا يعود للموت سطوته القاهرة علي الاحياء، فحين يفاجئ الموت شيرا في حقول الذرة شخصا أصفر يشبه الوطواط تجبره علي الفرار أمامها بعد أن توسعه ضربا بعصا السنط بأشواكها الناتئى، ويحاول الزين رشوة الموت المتريث امامه – في هيئة شخص غريب يرتدي ملابس الجنودن ويطوي تحت ذراعيه أجنحة صغيرة – بأوهام عاطفية..
 
الموت احدي المفردات الاثيرة للعالم الاستيهامي أحمد الملك منذ روايته الاولي، حيث أمكن لبوبي تضليل الموت في الدروب المتشابكة للأشواق، وارباك ذاكرته في متاهات النزوة والنسيان، وحينما أفلح في القبض عليه هرب منه مرة اخري في فترة ضعف للمراقبة ناويا العمل في البحر حيث سيصعب علي الموت إكتشاف مكانه.
 
استيهامي أحمد الملك – بكل تجلياته التي لن تسعها هذه المقاربة – تسعفه لغة تسعي دونما كلل لانتهاك العلاقات الدلالية المألوفة، الجاهزة والمستهلكة حتي البوار، مثيرة دوامة فوضاها الجميلة، فتمارس الجملة عنده سطوتها الجمالية عبر انزياحها اسلوبيا عن السائد والمستهلك، وتكشط الاشياء رثاثة قشرتها مفارقة سكونيتها وحياديتها الباردة. انها اللغة التي أناط بها أدونيس ( ان تقتنص ما لا يمكن اقتناصه عادة. ما لم تتعود هذه اللغة اقتناصه، ليس علي الكلمة اذن ان تكون مجرد تعبير بسيط عن فكرة، بل ان عليها ان تخلق الموضوع وتطلقه خارج نفسه.
 
اللغة هنا ليست شكلا مضافا الي محتوي، ولكنها كما هو الحال عند بروست ( صفة مميزة للرؤية، واكتشاف العالم الخاص الذي يراه كل منا ولا يراه الاخرون.
 
تقترح مثل هذه اللغة التعامل معها نقديا يمناهج علم اللغة النصي، وعبر النقد البنيوي، والاسلوبي الشئ الذي تفتقده هذه المقاربة بسبب اشكالات الشتات ( تكتب هذه المقاربة في بقعة نائية بتهامة ولا تستصحب غير الرواية) .. ولكن يمكننا الاشارة الي ملمحين اسلوبيين:
 
سيطرة حقول دلالية بعينها علي هذه الرواية مثل حقل الغناء، الطبيعة، الموت، الحزن، وتكرار مفردات هذه الحقول بنسبة عالية يفتح الباب للتعامل مع هذه الظاهرة اللغوية اسلوبيا واحصائيا لمعرفة الدلالات التي تنطوي عليها. ومدي اهميتها في تحليل النص، مستصحبين في ذلك ما ذكره اولمان عن بودلير الذي كتب: لقد قرأت عن أحد النقاد قوله: لكي نكشف عن روح شاعر ما، او عن همومه الكبري علي الاقل، ينبغي علينا ان نبحث في اعماله عن الكلمة او الكلمات الاكثر ترددا، فتلك الكلمة هي التي تفصح عما يشغله.
 
قدرة أحمد الملك الاستثنائية في استثمار القواعد العلمية للكتابة الوظيفية العملية غير الادبية لاستحداث تراكيب مدهشة، اذ يستغل أحمد الملك التركيب العادي للجملة الصحفية المكونة من أمثال – وعلي الرغم من انه، ليس فقط بسبب، كانت كافية ل، وتأكدت افتراضاتنا، لدرجة أنها، ..- وهي صيغ مستهلكة لدرجة الابتذال في التقارير الصحفية، ولغة الاخبار، والبلاغات الرسمية، يستغلها أحمد الملك ليشحنها بانفعال متوتر قلق، من استاتيكية هذه الجمل يفجّر أحمد الملك ديناميكية حادة نحو ( كانت تهدف لتقنين ذلك الحنون وتنظيفه من صدأ الشيخوخة وافات الاهمال، ودفعه الي المسار العادي لجشع النزوات اليومية) ( يتبادلون الاحاديث العابقة بفجور فطري مهملين التفاصيل الدقيقة التي يمكن ان تشي بوجهتهم الاصليةالتي يصعب تحديدها اعتمادا علي تتبع جفاف اغنياتهم لتحديد بدايات جفاف العاطفة وتصحر الاشواق. ) لاحظ ان برنامجهم كان مبرأ من عيب السأم، ومن ثغرات الشعور بالوحدة، واصابه الذهول حينما اكتشف انهم كانوا يستخدمون النسيان من اجل تجديد حيوية ابتهاجهم اليومي.
 
ختاما لا يمكن لهذه المقاربة ان تكتمل دون ان تشير باقتضاب، للترهل السردي في بعض مواطن الرواية اذ تتكدس التفاصيل وتتكرر دون ان تؤدي الي اغناء النص، وربما كان أحمد الملك مدفوعا في ذلك بما اسميه شهوة الكتابة، ودون ان نشير ايضا لانتفاء الحوار وغيابه في رواية تتجاوز المائتين والخمسين صفحة وهو أمر له دلالاته في ظل تسييد الراوي الاحادي الصوتن وفي ظل اكتناز النص بالتفاصيل، واافتئاتها علي حوار متمهل.
 
كما لا يمكن لهذه المقاربة الاولية ان تكتمل دون ان تشير بأسي للخطاء الطباعية واللغوية العديدة التي تناثرت بقعا دميمة علي صفحات النص الروائي، ففي الصفحات الاولي فقط من الرواية يمكننا ان نرصد هذه الاخطاء: ( نفس المقاعد التي جلس عليها اللورد كرومر ومرافقيه)، ( تثير لديها هواجسا) ( لا احد يستطيع تحديدا من الرجال الباقون) ( حينما فوجئوا به بين الغرقي متشبثا) ( وامطرت السماء بساطا ابيضا من نوار الليمون) ( او مظهر شخص صحراوي السمات ذو ارجل رفيعة) ( كما شهد معه اثنين من اولاده) الخ
 
أحمد الملك بما لديه من موهبة أدبية باذخةكفيل بان يتخطي مثل هذه الاخطاء ليحتل مكانه اللائق به بين الروائيين.
 
فبراير 1998.
 
نشرت بجريدة الخرطوم العدد 1762 بتاريخ 26 مارس 1998.
 
 
 
النص عبرأسلوبية الانحراف:
بقلم د. هاشم ميرغني .
 
في مقاربة سابقة لرواية أحمد الملك عصافير اخر أيام الخريف – صحيفة الخرطوم فبراير 1998- أشرنا الي انّ هذه الرواية التي تسعي لغتها دون كلل لانتهاك العلاقات الدلالية النمطية المألوفة لتغرس جماليتها في أفق القراءة، والتي يحتل فيها السلوك المباغت للوحدات اللغوية النازحة عن نمطية السياق ملمحا أسلوبيا بارزا وقطبا استراتيجيا لشعريتها، هذه الرواية تقترح التعامل معها، علي صعيد القراءة والنقد، عبر أسلوبية الانحراف التي يمكن ان تقدم الكثير لاضاءة المشهد اللغوي لعالم أحمد الملك الروائي الخصب ببذور القراءة واحتمالات التأويل.
وتجازف هذه المقاربة بالاقتراب من هذا العالم مستهدية ببعض المفاهيم النظرية لاسلوبية الانحراف التي تعاني وبشكل حاد من شح تطبيقاتها، وندرة فعالياتها النقديةسيما في حقل الدراسات الأسلوبية العربية التي سيّجت نفسها في الغالب، خلف مفاهيم نظرية بحتة حرمتها النفاذ الي فعالية تطبيقية تتقدم صوب النص.
إنها إذن مقاربة تستضئ ببعض الاجراءات والمفاهيم الاسلوبية محاولة الوصول عبرها إلي البنى العميقة للنص التي لا يمكن استشرافها الا عبر هذا الابحار الشاق بيم اللغة، اللغة التي كفت في الخطاب الأدبي الحديث أن تشير بوصلة تجاه المسمي، بل سعت بشراسة لاحتضان العالم داخلها دون أن تكف لحظة عن تأمل ذاتها والاخر.
نتوسل بالتحليل اللغوي الأسلوبي إذن، للابحار صوب جذر النص، مضمره، مخفيه، والمسكوت عنه، صوب ما تفتحه الأنساق اللغوية لأحمد الملك من مهاو تنشق تحت قدمي القارئ حيث تبدأ حيرة الاستدلال: أي يبدا الفخ الذي يقتنص الجانب الاخر للمعرفة، الجانب اللامسكون (1). ولا تسوّر مثل هذه المقاربة، بداهة، أفق القراءة النقدية لأحمد الملك داخلها بقدر ما تدلل علي تعدد المداخل النقدية لحقل هذا النص الخصب بثمار التأويل،
يمكن للناقد ان يرصد جذور هذا الوعي للأسلوب باعتباره انحرافا
Deviation
او خروجا
distortion
عن المعيار بتجربة الدراسات البلاغية العربية، ويبدو ذلك جليا من تعبيرا مثل أصل الكلام، أصل المعني، مقتضي الحال، التي كانت محكا فارقا بين النحويين والبلاغيين فاذا كان النحوي يهتم بما يفيد أصل المعني، فإن البلاغي يبدأ منطقة حركته فيما يلي هذه الافادة من عناصر جمالية (2). يبدا من الخروج عن هذا الاصل المعيار النموذج ليحقق بلاغته وشعريته، أي ادبيته أساسا.
ويميّز د. محمد عبد المنطلب في هذا النص الذي اقتبسناه بين مستويين للغة:
المستوي المثالي: الذي اقامه النحويون واللغويون والذي يقترب من أصل المعني حيث تتجلي اللغة باعتبارها نموذجا او اصلا ينحو نحو المعيارية والصحّة.
المستوي البلاغي : الذي يقوم علي انتهاك هذه المثالية، والعدول عنها في الاداء الفني، أي الاستخدام الفردي الخلّاق للغة، زحزحتها من معياريتهاقليلا لتقترب من صبوات القلب، وخبيئات الذات، توسيع امادها حدّ الانفجار.
هذان المستويان هما اللذان سيعاد تأسيسهما فيما بعد علي يدي دي سوسير وهما مستويا اللغة والكلام بحيث سيغدوان ركيزة أساسية في علم اللغة.
وقد كان رصد البلاغيين الاول للالتفات وتعريفهم له بأنه العدول من أسلوب في الكلام الي اسلوب اخر مخالف للاول (3) محاولة باكرة لتتبع الانحرافات اللغووية وتحليلها.
أخذ مصطلح الانحراف يكتسب ثقله المفاهيمي الخاص منذ أن أطلق بول فاليري صيحته النافذة : عندما ينحرف الكلام انحرافا معينا عن التعبير المباشر – اي عن اقل طرق التعبير حساسية- وعندما يؤدي بنا هذا الانحراف الي الانتباه بشكل ما الي دنيا من العلاقات متميزة عن الواقع العملي الخالص فإننا نري إمكانية توسيع هذه الرقعة الفذة، ونشعر بأننا وضعنا يدنا علي معدن كريم نابض بالحياة قد يكون قادرا علي التطور والنمو (4).
هذه الصيحة التي ما لبث أن تلقفها الاسلوبيون لتأسيسها نظريا، للدرجة التي عرف فيها علم الاسلوب بأنه علم الانحراف، وعرّف الاسلوب بانه شكل منحرف عن المعيار وانتهاك نظام اللغة (5). وفي اجابتهم علي السؤال الهام: ما الانحرافات التي يمكن رصدها وتحليلها في النص الادبي؟ أي ما الذي يجعلنا نصم اسلوبا ما بالانحراف والانزياح عن نظام اللغة، رصد الأسلوبيون العديد من الانحرافات الهامة ربما كان أهمها :
الانحرافات الجدولية:
وتتمثل في اختيار المؤلف لوحدة قاموسية غير متوقعة بدلا عن الاخري التي كان ينبغي او يتوقع استخدامها.
وبالرغم أننا الان لسنا بصدد تحليل الانحرافات الاسلوبية بعصافير اخر ايام الخريف الأ ان بعض انزياحاتها منذ الصفحة الاولي للرواية تملك قوة حضور ساطعة لذاكرة هذه القراءة :
تجلس علي حصير السعف في شمس امشير ترقب جنون الحياة من حولها.
كعادتها منذ ان احترفت مكافحة الحزن.
ففي المثال الاول تنبثق عبارة جنون الحياة فجاة من ركام العادي والنمطي، تجلس علي حصير السعف، فالمتوقع هنا كان :
تجلس علي حصير السعف ترقب الشمس، الشارع، أو حتي الحياة، ولكن ما حدث هنا هو مباغتتنا بجنون الحياة التي تبدو وكأنها ارتجال مخيلة عابثة، تثير ما اسماه ليوشيبتسر بذلك الشعور بالارنياح علي اثر انهيار مؤقت لطمأنينتنا.
في المثال الثاني تأتي كلمة الحزن بعد التقديم لها بهذه الجملة المغرقة في قالبيتها ورصانتها: كعادتها منذ ان احترفت مكافحة ، لتنقلنا فجأة من طمأنينة عالم مرتب واقعي الي عالم لا واقعي، من اسنتاتيكية النمط الي نقيضه، حيث تنبثق كنار مفاجئة اندلاعات المجاز بخشب المألوف. هذه الانحرافات وغيرها كثير كما سنري، يمكن لنا ادراجها تحت الانحرافات الجدولية.
الانحرافات التركيبية:
وتتمثل في وقوع الكلمة او الوحدة الصوتية في موقع يخالف المكان الصحيح حسب المعيار او النظام اللغوي في اللغة المعنية، وهي انحرافات نحوية وذلك نحو بدء الجملة بظرف او حرف عطف بدلامن المبتدا او الفعل لتأثير بلاغي معين، ويندرج ذلك في باب التقديم والتأخير الذي استفاض فيه البلاغيون الاوائل ( سيما عبد القادر الجرجاني) وبحثوا دلالاته البلاغية علي نحو مدهش لن يسعنا المجال هنا لمقاربتها. تحدث الانحرافات التركيبية خلخلة للبني الثابتة لترتيب اجزاء الجملة، أي خلخلة العلاقة بين المسند والمسند اليه، ومتعلقاتهما في مستواها النحوي النمطي، واعادة بنائها وفق رؤية مغايرة تسمح لنا برؤيتها من زاوية جديدة لها استيعاباتها الجمالية والدلالية علي مستوي التلقي.
علي مستوي اولي يمكن ان ندرج في محيط هذه الانحرافات التركيبية النحوية: تقديم الخبر علي المبتدأ، او الحال علي صاحبه، او الابتداء بالنكرة، او حذف ما لايحذف كهمزة الاستفهام، والموصوف مع ابقاء الصفة، وحرف الجر والابقاء علي عمله. او اضافة( ال) الي العلم والفعل.. الخ الخن وربما كان من المؤسف أن نشير هنا الي أن البلاغيين والنقاد الاوائل قد قصروا جواز مثل هذه الانحرافات علي الشعر دون النثر، مما كان له اكبر الاثر في الحد من تنوعات الجملة النثرية العربية.
علي مستوي اكثر تعقيدا يمكن لنا ان ندرج في مثل هذه الانحرافات: ابتداء النص بحرف الاستئناف الواو بحيث يبدو النص استئنافا لنص اخر مخفي، مفسحا المجال أمام المتلقي لتوسيع اماد النص صوب اللامكتوب والمسكوت عنه، واستقباله ضمن شبكة أوسع من العلاقات الدلالية.
فيستهل النص ب:
ونازل
من نهار سري
مغبّر ثرثرة مهمل، حليق الكف
عاطف خيري: تلوين.
او ابتداءه ب ( اذن) التي لا تأتي في التركيب النحوي النمطي الا جوابا وجزاء لما سبق معرفته:
إذن،
كيف تمضي الظهيرة
دون أن يجلس رجل ما
في مكان ما
متفقدا أسماك غربته
وما تبقي من سيئات بالجلوس؟
عاطف خيري : جلوس.
 
أو هجرة ما هو عامي (رغم التحفظ علي المصطلح) لجسد نص فصيح:
طيّب
من علّم الطمي الكتابة
بالدم النوري
الصادق الرضي : مسودة الاغاني.
 
الانحرافات الدلالية:
وهي الانحرافات التي تحدث علي مستوي المجاز، أي علي مستوي الدلالة أو البنية العميقة للنص، وواضح هنا تداخلها مع الانحرافات الجدولية وان تنحي قليلا فيها الانحراف المباغت علي مستوي السياق، لتبحث علي مستوي تحليل الاستعارة، الكتابة ، التشبيه .. الخ الخ.
 
الانحرافات الخطية:
أي تلك التي تحدث علي مستوي خط الكتابة، وعلي نحو أكثر تعقيدا علي مستوي العلاقة بين بياض الورقة وسوادها أو ما يعرف بجغرافيا النص، بما هو رؤية بصرية دلالية ( الامثلة الاكثر حضورا ودلالة هنا قصيدة رمية نرد لملارميه واسماعيل لادونيس.
ويثير برنرد شبلنر وغيره من الاسلوبيين عددا من الاسئلة الهامة هنا: علي أي مستوي لغوي ينبغي أن تكون الانحرافات ممكنة؟ كيف يمكن للمتلقي اكتشاف هذه الانحرافات؟ تحليلها؟ كيف يتحدد مستوي المعيار الذي ينحرف عنه النص؟ أي : عن أي شئ بدقة ينحرف النص؟(6)
وفي اجابته علي هذه الاسئلة يستعرض شبلنر عددا من المحاولات التي اقتربت من تحديد المعيار وتقعيده:
اعتبار المعيار هو النظام اللغوي للغة المعينة، ويدرك الاسلوب في هذه الحالة باعتباره انتهاكا لنظام هذه اللغة.
ويتماهي هذا التصور مع حقيقة أن ظواهر الكلام – بوصفها تحقيقات فردية شخصية – تنحرف بدرجة مؤكدة عن الوصف العام لنظزام اللغة، ويستقي جذوره من تفريق دي سوسير الهام بين اللغة والكلام. ويثير شبلنر في وجه هذا التعريف تساؤلا هاما وهو مدي إمكانية اعتبار كل الظواهر اللغوية المخالفة للنظام هامة اسلوبيا.
كما يمكن ان يثار في وجه هذا التحديد للمعيار أنه يعتبر كل انتهاك للنظام اللغوي انحرافا بالضرورة، وبذلك تتسع دائرة الانحراف لاماد لا حصر لها لتضم في جوفها كل المقول والمكتوب.
تحديد المعيار باعتباره امكانية محايدة في التعبير او الاراء، وهو التحديد الذي قدمه جبوير، ويمكن تصنيف التغييرات اللغوية الي عناصر محايدة واخري اسلوبية اضافية ويقترب هذا التعريف من تصور بعض الاسلوبيين للاسلوب باعتباره تعميقا بلاغيا واضافة جمالية.
المعيار باعتباره المتوسط الاحصائي لكل الوسائل اللغوية لمجموع النصوص الموجودة والاسلوب حينئذ انحراف بعض الوسائل اللغوية في النص مجال البحث عن المتوسط.
والاعتراض الاساسي الذي يثيره شبلنر في وجه هذا التعريف للمعيار هو صعوبة تحقيقه، وكذلك صعوبة تسخير جميع النصوص الممكنة لاسباب نظرية: لأنها غير محددة ولاسباب عملية: لأنها ضخمة (7).
كما تنبه لأن الانحرافات الاحصائية غالبا ما تكون خادعة، أي خاوية من أية دلالات معنوية، وانها غالبا ما تأتي ذات علاقة وثيقة بسياق النص أي لا تمثل انحرافا عن المعيار.
وقد وصم اولمان الطرق الاحصائية بافتقارها للحساسية الكافية لالتقاط الخبايا الدقيقة للنص، وعدم احتفالها بالسياق، وتقديمها الكم علي الكيف، وحشدها لعناصر متباينة علي صعيد واحد بناء علي تشابه سطحي بينهما (8).
 
المعيار باعتباره النظام النحوي للغة:
وهو تصور النحويين التحويليين التوليديين للمعيار، يقول انكفست: سنستعمل مصطلح انحراف لنقصد به الخلاف بين النص والمعيار النحوي العام للغة، ولهذا فالانحراف يعني عدم النحوية وعدم القبول (9). واشكالية هذا التصور تكمن في حصره للانحرافات في اطار الانحراف النحوي، واهماله للانحرافات الاخري (الدلاليةن الجدولية.. الخ) مما يحصر الانحراف في دائرة ضيقة يقاس نصف قطرها بالنحو وقواعده.
جوبهت هذه التصورات وغيرها للمعيار باعتراضات منهجية شرسة – كما رأينا – ينبثق اغلبها من نواة مركزية واحدة : صعوبة تحديد المعيار أو اختزاله. لذلك كان لابد من مجئ ميشيل ريفاتير ليستبدل مصطلح المعيار الغامض، غير المحدود، الخاضع في رأيه لعرف غامض، او لحس لغوي متغير، بمصطلح السياق .
Context.
لقد اتجه ريفاتير توا الي قلب النص، ناقلا محور الاهتمام لداخل النص بدلا عن خارجه، ليفحص المقابلة بين وحدات النص المتتابعة أفقيا، هذه المقابلة التي تنبع قيمتها الاسلوبية من نظام العلاقات التي تقيمه بين العنصرين المتصادمين، التي ما كانت لتحدث اي تأثير بدون وصلهما في متتابعة(10).
ويعرّف ريفاتير السياق الاسلوبي بأنه نسق لغوي يقطعه عنصر غير متوقع (11)، أي مضاد للسياق، وغير متنبأ به.
ولاضاءة مفهومه للانحراف عن السياق يضيف ريفاتير مصطلحين هامين وهما: الارتداد والتناصي، ويعني بالاول تلك الوقائع الاسلوبية التي سبق للقارئ اكتشاف قيمها ثم لا تلبث أن تعدّل معانيها بآخرة بناء علي ما يكتشفه القارئ وهو ماض في قراءته، كما يعني بالتناصى ذلك الاثر الذي ينشأ عن تراكم عدد من المسالك الاسلوبية لتحدث قوة تعبيرية لافتة، والتي يعدها مثالا للوعي البالغ باستعمال اللغة (12).
جوبهت اسلوبية الانحراف كغيرها من المفاهيم والتصورات الاسلوبية، باعتراضات حادة (13) يمكن لنا هنا دراستها ومناقشتها ولكننا نفضل ان نثير تساؤلا اساسيا هنا: كيف يمكن ان تساعدنا اسلوبية الانحراف والبحث الاسلوبي بعامة في التقدم صوب النص وفض علاقاته المعقدة، أي كيف يمكن القفز من قيد التحليل الاسلوبي اللغوي لرحابة الشبكات الداخلية الخفية التي ينسجها النص؟ أن النص بما هو حدس متراكب تضافرت مختلف العوامل المحسوسة وغير المحسوسة في انتاجه يتأبي دائما علي الاختزال في ذلك الحيّز الضيق المسمي بالتحليل الاسلوبي، ثمة ما يطفر دائما من قبضة هذا التحليل: رؤيا النص، حدوسه، اندلاعات جنونه، مضمره، والمسكوت عنه.
وربما كان الاسلوبي ليوشيبتسر من اهم من انتبهوا الي الاشكاليات التي تعاني منها الاسلوبية في هذا المجال، لذا كانت مطالبته الهامة للاسلوبيين بالتقدم من السطح الي مركز الحياة الباطنية للنص: بأن يبدأ بملاحظة التفاصيل عن المظهر السطحي للعمل.. ثم تجمع هذه التفاصيل محاولا ان تتكامل في مبدأ ابداعي لعله كان موجودا في نفسية الفنان (14).
وهي المطالبة الهامة رغم انكفائها اساسا، علي التحليل النفسي المنطلق من وقائع لغوية في النص ، التي تصطدم باقتراحات ريفاتير الصارمة بضرورة تخلي القارئ عن جميع استجاباته الثانوية تجاه المثيرات الاسلوبية، لينطلق من الوقائع اللغوية الصلبة للنص، اذ يقترح ريفاتير ما يسميه بالقارئ العمدة    
Archilecteur
لضبط عملية الاستقبال والحد من عملية التأويل تخوفا من تغول الذات القارئة علي خصوصية النص، واسقاط ثقافتها وفلسفتها عليه.
ورغم ما يمكن ان تقدمه رؤية ريفاتير هذه في ضبط عملية التلقي لصالح العلمية والمنهجية الا انها كفيلة بتسييج التحليل الاسلوبي خلف الرصد الكمي دون أن تقوي كلية علي اكتشاف خبايا النص.
هذه المقاربة للمفهوم النظري لاسلوبية الانحراف ربما ساهمت في اضاءة مشهد هذا المفهوم بذهن القارئ، مما يسمح لنا أن نتقدم أبعد صوب بقاع عصافير اخر ايام الخريف.
 
هوامش:
مذاهب المعني : سليم بركات. مجلة الكرمل العدد 44 1992 -1
البلاغة والاسلوبية: د محمد عبد المطلب. الهيئة المصرية العامة للكتاب 1984-2
ومن ذلك قوله تعالي ( حتي اذا كنتم في الفلك وجرين بهم) يونس 22، حيث عدل عن مخاطبة الجمع كنتم الي الاخبار (جرين بهم) ، وانماط الالتفات التي رصدها البلاغيون عديدة جدا.
الرؤيا الابداعية تحرير هاسكل بلوك، هيرمان سالنجر وترجمة اسعد حليم. مكتبة نهضة مصر بالفجالة 1966.-4
علم اللغات والدراسات الادبية. شبلنرن ترجمة وتعليق د محمود جاد الرب الدار الفنية 1987.-5
المصدر السابق ص 68-6
السابق ص 70-7
انظر مقال استيفن اوطان الهام اتجاهات جديدة في علم الاسلوب في كتاب اتجاهات البحث الاسلوبي ، شكري عياد، - دار العلوم للطباعة الرياض 1985.
علم اللغة والدراسات الادبية ص 79-9
اتجاهات البحث الاسلوبي ص 148-10
المصدر السابف.-11
السابق ص 150 وما بعدها.-12
انظر علم اللغة والدراسات الادبية ص 72- 74-13
اتجاهات البحث الاسلوبي ص 69 – 70-14
 
 
 
 
 
 
الجزء الثاني:
 
دهشة اللامتوقع:
في تحليله لمنحي رابليه في الكتابة حلل ليوشبتسر تلك الاستجابات التي تثيرها كل كلمة مرتجلة، تلك الصدمة المؤقتة التي يتلوها شعور بالاطمئنان، فالدفع نحو المجهول يثير الخوف، ولكن تبين النتيجة الخيالية الطيبة يبعث الراحة. والضحك.. ينشأ بالضبطمن شعور بالارتياح اثر انهيار مؤقت لطمأنينتنا (1). ورغم أن تحليل ليو شبتسر يدور أساسا حول الكلمات المرتجلة التي يطبخها رابليهمن اجل أعدائه (2) الا أنه يمكننا مد رؤية شبتسر الي مدي أبعد بحيث تشمل ليس فقط الكلمات التي ترتجلها من عماء اللغة مخيلة عابثة، بل ايضا تلك الكلمات المباغتة، المرتجلة في سياق لا ينتمي لها، فالعصافير لا تجازف بصك مفردات مجهولة بالنتسبة لنا كليا منق بل مثلما يفعل رابليه ( السوربيلان، السانسيبوسان، القناعير..) او بشري الفاضل ( الطفابيع، يدندر، هاهينا، ساعتشؤم) بل تضع المفردات في غير سياقها المألوف ، مما يحدث ذات الاثر: الانهيار المؤقت لطمأنينتنا، دهشة اللامتوقع، اللامتوقع هنا ليس علي صعيد المفردة، بل الجملة.
علي مستوي اخر، يمكن القول أن الملك بحفره المهووس بتربة سياق لا ادبي يحاول ان يكشط عن المفردات المألوفة النمطية قشرتها الكثيفة التي تعوقها عن الافصاح عن جوهرها الحقيقي المكدس التي اهترأت من طول الاستعمال حتي فقدت طاقتها الايجابية، يجاهد الملك للوصول الي نسغها الحي، لدلالتها الثاوية عميقا في قلبها، فيزيح الاسم الملصق كقمقم ليبعثها من رمادها: فيسمي الجنس جشع العاطفة، والخرف متاهات خزي الشيخوخة، والودع ادوات ممارسة الدجل، والعشق توسيع حدود مهالك العاطفة، والوقوع في الحب بدء تجدد أعباء القلب، حينها يكون لمثل هذه المفردات، وما أغزرها في الرواية، أن تغادر سكونيتها لتدلف لرحابة عالم يزدهي بذوبان الحدود المتوهمة بين الاسطوري والواقعي فيستخدم الجاروف لاقتلاع النباتات التي تغذي سطوة السام النهاري الناجم عن تكرار حوادث غير مشوقة، كما ألمحنا في مقاربة سابقة.
 
 
الحرية:
ما الحرية التي يمكن ان تمنحها مثل هذه الاستراتيجيات النصية لعصافير اخر أيام الخريف.
في مقاربة سابقة أشرنا الي ان الحديث عن حداثة عربية منفصلة عن همها الحضاري يبدو امرا صعب التحقق        حتي في بعض أنصع نماذجها بسبب وطأة حضور هذا الهم ونفاذه حتي أدق تفاصيل اليومي والعابر(3) ولكن هذا الانطلاق من بؤرة الواقع، من صراعها الدائب ضد نموذج لغوي قبلي هو الذي يفتح هذه الحداثة علي حريتها وفاعليتها، النضال ضد تكلس اللغة، يبدأ من داخلها لا من خارجها، من كشط صدئها التاريخي، ثم منحها بريئة للكتابة.
وتستعيد ذاكرة المقاربةهنا بعض النصوص الهامة المنبثقة من اختراق اللغة النمطية التسجيلية لتفجير بنية الكتابة من الداخل كمجمل أعمال صنع الله ابراهيم، تلك الرائحة، نجنة اغسطس، ذات .. الخ.
كما يمكن لها ان تستعيد الانجاز الهام للقاص أحمد الفضل أحمد في استثمار لغة طبقات ود ضيف الله وكذلك الانجاز المتفرد لجمال الغيطاني في الرواية والقصة القصيرة، ان بحث الغيطاني الدائب عن صيغة تحقق له أكبر قدر من حرية التعبير، قد قاد خطاه الي اللغة المملوكية وتشربها، والنفاذ الي خصائص ايقاعها الداخلي، وحسها الخفي المهووس بالزمن وفداحة القهر. وتماهيها مع ذاكرة المتلقي التاريخية، فانجز اهم اعماله: مذكرات شاب عاش منذ الف عام، الزيني بركات، اتحاف الزمان بحكاية جلبي السلطان.. الخ.
هذه الخصيصة الاسلوبية – اسثمار لغة نمطية باختراقها من الداخل تتبدي قاسما مشتركا شرقا وغرباففي اجابة الكاتب الكوبي سيفيرو ساردوي علي سؤال كاظم جهاد الهام: تكتب خصوصا في مجموعتك الاخيرة ( شاهد عابر ومتنكر) في اشكال عروضية، أية لذة تبحث عنها في هذا الخضوع لشكل محدد تروح تقضمه وتهدمه من داخل؟ اية حرية تحققها في هذا النضال المهووس ضد العائق؟ كان الرد: هذا بالغ الاهمية عندي.. واتذكر انني عندما كنت اكتب شعرا حرااو نثريا، اي اتمتع بالحرية الكاملة، لم اكن لا اقتدر علي ابداع شئ، وانا احفظ بهذا الصدد مقولة لرولان بارت اراها اساسية، ان نظام المعنيهو نظام الحرية الخاضعة لمراقبة، ليس ينبثق المعني اذا كانت الحرية كاملة او معدومة.(4)
يبدو هذا الاقتباس ضروريا رغم طوله، لأنه يضئ لنا ذلك الجانب السحري للكتابة الخاضعة لسياق تروح تقضمه من الداخل: جانب الحرية.
هذه الاستراتيجية النصية منحت أحمد الملك حرية لا حدود لها، ليس علي صعيد خصوبة النص وانفتاحه الدلالي فحسب بل علي صعيد غزارة الكتابة حرفيا، اذ لا يمكن تعليل هذه الكثافة العضوية لكتابة أحمد ( روايتان مطبوعتان واخريتان مخطوطتان هما امنية واحدة فقط للعمدة والخريف يأتي مع صفاء ومجموعة قصصية قيد النشر ( الموت السادس للعجوز منوفل) وعدد كبير من القصص المنشورة والمخطوطة) سوي بهذه الحرية التي يمنحها التوصل لاستراتيجيات تيسر الكتابة، وتسمح بانضاجها وفق قوانين خاصة، وكتابتها بايقاعات بعيدة عن متناول سائد ايقاع عام يقود الي نمط، اذا استعرنا تعبيرا للصادق الرضي في حواره الخصب مع بابكر الوسيلة. (5)
 
اتساع شبكية النص:
 
تمنح استراتيجية التضاد أحمد الملك فضاء واسعا من الحرية، تلك الحرية التي تسمخ بالمزج بين حقول دلالية مختلفة لم يكن لها ان تجتمع في سياق واحدالا عبر هذه الاستراتيجية فتتسع شبكية النص لتلتقط ادق مفردات الداخل والخارج، لا تفلت حتي ما يبدو للباصرة الكلية منفلتا من قيد التدوين: تمسك بلبنات عالم داخلي ايل للانهياردون ان يتوقف لحظة عن تشييد احتياطاته المؤسسة ضد الموت( شيرا، فاطمة)، ترصد بخبث بوادر خلل الاشياء عند نزول الغريب (العمدة) تعزي ما يمور تحت السطح من رغبات دفينة في امتلاك فاطمة نور الصبح، تتفتح وردة لاندلاع مهرجان صخب الغرباء المستعرضين بمجون فطري قدرتهم المهلوة علي البهجة، دون ان تقوي كلية علي قياس منسوب بهجتهم المدمرة، تؤالف بمخيلة شرسة الروائح، الطيور ، جنون الارامل، اسماعيل صاحب الربابة، الدميرة.. تؤاخيها دونما صعوبة باعتبارها عناصر متجانسة لمركب واحد: جدل الحياة المشغولة بصد غائلة الموت او تأجيله او تحييده.
ويمكن لهذه الاستراتيجية ان تفسر اكتناز النص حتي حدود الترهل السردي، يغدجو الثراء في بعض مواضع الرواية قيمة مهدرة فتنفلت خيوط النسيج الروائيوتصطرع الحوادث نفسها، نفسها تقريبا، في فضاء مغلق يحبس توقها للانطلاق والتحول، فتظل تتناسخ بلا هوادة في عراء عزلتها، حينها يكون أحمد الملك مدفوعا بشهوة بروق الكتابة، مأخوذا بطزاجة هذا العالم الذي يتخمر طينا نيئا بين يديه، اذ ذاك يستعيض عن السيطرة علي الدلالة- الذات- العالم بالسيطرة علي جسد المفردة، وبدلا من انطلاق المفردة كسهم متوتر لتنوير ذاتها والعالم، تكتفي بالدوران حول محورها، معراة من دفق حرارتها، مقلصة فضاء الرؤيا حتي الاختناق.
ثمة مزالق تكمن دائما في مثل هذه الحرية المنبثقة من تبني استراتيجيات خاصة في الكتابة: التكرار، القالبية، التحول الي نمط، استنفاد حيلها التعبيرية، سهولة فك شفرتها من قبل القارئ المتمرس.
وقد انتبه غير واحد من النقاد، الي ان تجربة الغيطاني اللغوية المتفردة كادت ان تتحول الي قالب مسبق علي التجربة، وان تحرره من القيد التقليدي كاد ان يسلمه الي قيد اخر، ولكن الغيطاني بموهبته الباذخة ووعيه النقدي الحاد استطاع ان ينتبه لهذا المزلق في وقت مبكر فلم يكرر تجاربه اللغوية، واصبح النص عنده خالق حالته اللغوية، ومن ثم اختلف الزيني بركات عن وقاع حارة الزعفراني، عن التجليات.. الخ.
 
الانزياح عن السلطة:
 
تتبدي لنا عصافير اخر ايام الخريف كأي نص حداثي مشتبكة بهم صراعها ضد السلطة، فعلي مستوي الاشارات الصريحة للنص يمكننا ان نرصد: انقلاب عبود، استيلاء الغريب علي منصب العمدة، الخ، وهي الاشارات التي تؤازر مثيلاتها في نصوص الملك الاخري، الدبابة، المشير يبحث عن بيته في شارع الارامل، الفرقة الموسيقية، عم حمدان الذي اصبح مغنيا، حيث نقرأ : ورغم ان مدخله الاول لفضاء اللحن بدأ بمارشات عسكرية أعطت انطباعا حذرا بنبوءة احتمال تغيير وشيك حتي أن رئيس اللجنة الشعبية الجالس في المقدمة بدأ في نتف لحيته بحركات عصبية من يده، الا ان اللحن بدأ بعد قليل يأخذ مسارا سلميا.
 في ادانة صريحة لواقع السلطة الانقلابية المذعورة في السودان.
يمكن للقارئ التقاط اشارات عديدة تسعي ساخرة غالبا لتعرية قهر السلطة في مختلف تمظهراتها: السياسة، اللغة، المجتمع، الي الميتافيزيقا، ولكن ما يهمنا هنا: كيف يؤسس النص لصراعه مع السلطة عبر اللغة في تبنيه لاستراتيجية الانحراف؟
في دراسته الهامة – الحداثة، السلطة، النص – يضع كمال بوديب الحداثة بمواجهة السلطة حيث الاخيرة : الاكتفاء بالقائم، الرسوخ والترسيخ في اطار النظام، قولبة الاتي علي شكل الكائن، حمي الانغلاق (6) ، علي النقيض تنهض الحداثة مضادة لكل ما هو يقيني مصمت، راسخ كطود، تنهض لا احتجاجا علي السلطة او رفضا لها، او صراعا معها وحسب، بل انسلاخا عنها، وانتماء الي ما يقع خارجها.. وفي هذا المدي القصي تصبح الحرية شرطا وجوديا لا مطلبا، تصبح مناخا تتم فيه الحركة، لا هدفا يسعي اليه. (7).
ولأن التمظهر الاكبر للسلطة هو اللغة، اللغة الماضوية المغبرة بسلطة الايديولوجيا، وهلام السلطة، كان من البديهي للحداثة ان تصطدم بحاجز اللغة التي تحولت الي كابوس الثقافة السلطوية الضاغط علي عصب الحياة الجديدة المتبرعمة (8).
هذا التمرد الحداثي ضد السلطة عبر اللغة والذي يتم عبر اليات عديدة، يقوده نص : عصافير اخر ايام الخريف، عبر اختياره القصدي للغة سلطوية بالمعني الاجتماعي لا السياسي، تمتلك كل سمات اللغة السلطوية: البنية النمطية المتواطأ عليها، لهفتها للاقناع والاستقطاب، الانزياح عن انفلاتات الاستعارة، افتقارها لكل خصيصة فردية اسلوبية.. الخ، يقود النص تمرده عبر اختياره لهذه اللغة، ثم التمرد الداخلي عليها، قلب دلالاتها، قضم سكونيتهاوحيادها، خلخلة بناها المنطقية.
لم يتجه أحمد الملك للغات التي تقع علي هامش لغة السلطة ورسميتها،( الحلاج، ابن عربي، النفري، الطبقات كنماذج لهذه اللغات، الهامش) انما اتجه توا لقلب لغة السلطة في اكثر بقاعها يباسا ولا أدبية، ليقلب تربتها، ويغرس خضرته.
تلمس بقلق انه ورث عن والده المقدرة الفذة علي توسيع حدود مهالك العاطفة)
يكتشف الصبيّان من فوضي الذكريات البدايات الشتائية الاولي لضمور العاطفة وبداية انحسار الاشواق.)
 
 
هوامش:
اتجاهات البحث الاسلوبي ص 1 -
السابق علي نفس الصفحة2 -
وعي الحداثة، صحيفة الخرطوم العدد 2027 بتاريخ 6-2 -1999-
الكرمل العدد 38 لسنة 1990 ص .104
اسئلة الشعر وصدي الاجابات، صحيفة الخرطوم العدد 2070، بتاريخ 1- 4- 1999
فصول المجلد الرابع، العدد الثالث ابريل يونيو 1984.
الحداثة، السلطة، النص لكمال ابوديب ص 35.
السابق ص 38
السابق ص 43
 
          
نشرت بصحيفة الخرطوم العدد 1726 بتاريخ 26 مارس 1998.
 
 
 
 
 
 
 
 
          
 
 
 
عصافيرآخرأيام الخريف
 
ثيمات الوحدة، الأسي والموت
 
بقلم الروائي والناقد: الحسن بكري
 
 
 
يفتتح الكاتب روايته علي نحو درامي أخاذ .. فاطمة انثي تساوي نور الصباح، وهي صبية يخفف نسيم صباها قيظ الدميرة، بها ينشئ الكاتب رمزه النموذجي الاول ثم يخلق الظلمة:
 
كان العالم رائعا بالفعل في تلك الايام الطيبة قبل حضور ذلك الغريب برائحته النفاذة، رائحة حيوان بري منقرض، لا احد كان قادرا علي تحديد النقطة التي بدأ منها ذلك الغريب وجوده المفاجئ والغريب في القرية، وجدوه بينهم فجأة مشاركا في أدق تفاصيل الحياة اليومية، قليلون هم الذين استطاعوا التخمين بأنه وجد بينهم في لحظات مأساوية تسرب اليها من ثغرة ضعف جماعي في ذاكرة القرية.
 
ما يلبث الغريب بان يصبح عمدة بعد موت العمدة الاخير. اذن فقد آلت الحاكمية للظلام: ( بعدها بدأت تظهر بوادر خلل غير محسوس في دورة الاشياء في القرية.. الدجاجات لم تضع البيض خلال اسبوع كامل.. لاحظ ابراهيم البصير تبدلا في عادات ابقاره الثلاث، ورصد تناقصا في كمية اللبن الذي تحلبه يوميا.. شجرة الحراز ازهرت في موسم الدميرة.
 
علي عهده غدت البلدة نهبا لظلامية مفرطة، انظر الي الذي يحدث في قصر حكمها:
 
بعد ايام من اختيار الغريب عمدة علي القرية حل في البيت الكبير فجأة رهط من الغرباء كانوا منتشرين في كل مكان داخل الفناء مثل الارضة، ونظرة واحدة الي وجوههم الغريبة الموسومة بداء الهجر كانت كافية لتشي بعمق الرباط الذي يجمع بينهم والذي يزداد وضوحا بعد غروب الشمس في صورة ميل جماعي للظلام)
 
هم من بقايا قبيلة متوحشة نبتت في عمق الصحراء بمشاعر حجرية، علاقتهم بالصحراء وثيقة فانغامهم الصحراوية شبيهة بعاصفة من الشوك، الي ذلك يتميز الغرباء بقدرة هائلة علي احداث الخراب واشاعة الرهبة.
 
قاموا بالاكتاف بهدم الجدار الفاصل بين البيتين مقتلعين في طريقهم شجرتي ليمون وشجرة مانجو فاضطر الطيب لاخلاء بيته قضاء الليلة في الرمال امام البيت الكبير)
 
والغريب كذوب وانتهازي التفاصيل اليومية ويفرض وجوده من ادق تفاصيل الاشياء بحيث يبدو بدونه ان الزمن لن يمضي وان الاحزان لن تنحل وان مواسم الحصاد لن تحل وان اشجار النخيل لن تبدو قابلة للتلقيح وان اكذوبته تنطلي حتي علي عصافير المغيب فتبدل مواقيت غنائها وعلي الطيور المهاجرة فتعدل مسارها وان اكذوبته تنطلي حتي علي المواسم فيتأخر موسم الدميرة ويحل الصيف فجأة دون انتظار، وتتوزع مواسم الحزن في اطراف المواسم الاخري.
 
نلاحظ في الفقرة السابقة ايضا واحدا من تقنيات السرد الاساية في الروايةن اذ تقوم علاقة جدلية بين الشخوص والوقائع من جهة والطبيعة من جهة ثانية. وبذا تتشخص الطبيعة ويتطبع الشخوصن فبوسع الشخوص تدجين الطبيعة وترويضها بل وخداعها علي نحو مباشر، بينما يمكن للطبيعة ان تمارس الفعل ذاته علي الشخوص والوقائع، وعلي مدي النص تقوم ايضا علاقة تناغم منتظمة بين الشخوص ، الطبيعة والوقائع، وهذا النوع الاخير من العلاقات تقنية تقليدية ثابتة في الرواية والشعر الغربيين، في واحد من المشاهد الرائعة التي تحفل بها الرواية تربط نبوءة بين موت سليمان التاجر وموت نخلة ببيته:
 
أصابه هاجس الموت بجنون الحياة قام اولا ببناء سور حصين يحيط بالنخلة، وتعهدها بنفسه بالماء مانعا أي شخص من الاقتراب منها، حتي أصبحت غابة من الجريد، وكان يقوم بنفسه بيتنظيفها من الارضة وينصب الفخاخ للفئران التي تعشعش في جذورها، ويدمر أعشاش القماري ببندقية المورس.)
 
يتم ايضا تشخيص الموت.. فاطمة نور الصباح تقيم احتياطات ضد الموت وتضع الحواجز في طريقه وشيرا المجنونة بعصا سنط ( طاردت الموت حينما حاول مباغتتها قبل سنوات.. طاردته شخصا غريبا اصفر يشبه الوطواط) هكذا تتوثق الاواصر بين الغربة والظلام والموت ، الغريب = الظلام.
 
واذ يبني الكاتب اسطورته باتقان، يهدمها بذات الدرجة من الاتقان. ما ان تستقر الرموز حتي تتداعي، فأحمد الملك لا يهدر اسطورته في سبيل تماسك الرموز, انه كما ذكرنا يبنيها ويهدمها علي نحو متصل، ليس بالامر اتساقا في الوقائع او ثباتا في النتائج فأنت تقرأ نصا غاية في الغني، يقوم علي طزاجة الحكي واحكام التناقض والتناغم في ان واحدن انه مثل كتاب الرمل عند بورجيز ، مفتوح علي كل الاحتمالات وسرمدي، لا يبدأ ولا ينتهي. لكنه يرسخ ثيمات اساسية ترتبط في مجملها باهوال الموت: العزلةن الشيخوخة، الحزن، جفاف العاطفة، السأم، الاغتصاب وهلمجرا. ومن هذه الثيمات تأخذ الرواية عنوانها، فاخر ايام الخريف ما هو الا يوم الموت نفسه. وفي اتساق مع تقنية بناء الرموز الملتبسة التي لا تفضي دائما الي ذات المدلولات تتوارد عصافير الخريف كمظهر طبيعي معتاد ولا تغدو نذيرا مطابقا للموت الا في نهاية الرواية، حيث ( تسترخي فاطمة ترقب عصافير اخر ايام الخريف تظهر للمرة الاولي بكثافة في بيتها) والغرباء جلادون في حالة الغريب ورهطه وهم ضحايا في حالة الغربيين التوأمين.كذا يحيط الغموض بالوقائع، فالغريب يأتي من اتجاه واحد ومن كل الاتجاهات، ومن هذا الزمن او من ذاك. وافق مجيئه كارثة ما: فيضان النيل الكبير بجثثه وغرقاه، او غزوة الجراد الاولي( لاحظ الاولي ، فثمة غزوات عديدة) جاء من بلاد باردة وبعيدة او من اغوار السافنا، ربما جاء في ليلة السابع عشر من شوال، او ليلة عشاء الموتي، وهو شجرة تين شوكي( الصحراء بمدلولاتها الشرق اوسطية العديدة).
 
ويعمد الكاتب الي تكثيف تكرار الوصف، والمفردات أحيانا، ليصبح هذا التكرار جزءا من بنية النص يرسخ موضوع السأم المرتبط بثيمات الموت والوحدة.
 
الشخوص الاساسية كلها تمضي الي نهايات تراجيدية. وتتم الشخصنة( صنع الشخوص) في قالب يكسبها ملامح الشخصية الاساسية في الرواية، وهي عندي فاطمة نور الصباح، التي تحيا عمرها كله وهاجس الموت لا يفارق خيالها. فالقصة تبدأ وتنتهي بالموت الغامض لابنها والذي يمكن ان نقرر انه مات غيلة، وتتوازي نبوءة موته التي تطلفها سعيدة الرمالية مع نبوءتها بموت ابن مبروكة من اصغر اولاد الغريب الذي يكرر ملامح شخصية شبر وجده الغريب اضافة الي بشير اين فاطمة.
 
(تغرق مبروكة في وحل اللذة فتصل بذرة الموت الي احشائها غلاما أصفر، ستلده بعد شهور من قيلولة وحدتها، موسوما بداء الحرمان، مطاردا بنبوءة الموت، فتكرهه في ايامه الاولي ثم تحبه بجنون.. تقرأ سعيدة الرمالية في عينيه مأساة اصابته المبكرة بداء الحرمان وتتنبأ بلون جلده الاخضر الشبيه بجلد حرباء .. فتقول سعيدة الرمالية.. سيموت الفتي حينما تجف هذه الشجرة وترسم علي التراب دائرة صغيرة.)
 
فاطمة ومبروكة كلتاهما تعرضتا للاغتصاب، وواشح ان الغريب هو من اغتصب فاطمة، اذ اتصف بشير ، ابنها من حادثى الاغتصاب بصفات الغريب، وابنائه واحفيده، بينما شبر، بملامحه الغريبة قد اغتصب مبروكة. وكلتاهما ستموتان في الظروف الموحشة ذاتها. ففاطمة تنبئ رائحة نوار الليمون عن ( قرب موتها وحيدة ترهقها وعثاء رحلتها مع الحزن). اما مبروكة فتحيا ( شيخوخة مبكرة وحيدة منسية) شيرا تتعرض لمحالوة اغتصاب، لكن حينها كانت العزلة قد أجدبتها واطبقت علي جسدها وروحها بحيث استحال علي الزين مغتصبها ان يتمكن منها. ورغم ان شيرا تموت امرأة معصومة من الحزن، فان ذلك لم يحدث في واقع الرواية المأساوي الا بفعل الجنون. شبر يبلغ به الحزن منتهاه، فيمسي هو الاخر معصوما لأنه (استنفد منذ زمان كل حصته من الحزن).
 
الموت عند أحمد الملك صنو العزلة والخيبة. وتفني الحياة لفوضاها وتفجرها واشتداد زخمها، اما الموت فهو بالمرصاد دوما، لا يزيده التشبس بالحياة الا مضاء وشهية وهو اذا يتسلل من خلال تخلق وانبثاق الوجود يبدو كما لو كان رديفا للحياة او مؤامرة كونية متعمدة. انه غير الموت عند الطيب صالح، كما نجد في مريود مثلا، حيث يغدو الموت اقرب الي فرح طقسي، يمتزج باشهي لحظات لاحياة:
 
دفناها عند المغيب كأننا نغرس نخلة، او نستودع سرا عزيزا باطن الارض.. وحملناها برفق نحن الستة ووضعناها علي حافة القبر . اسمع ذلك الصوت الذي ليس مثله صوت يجيئني من بعيد مثل ناي سحري ، في غلالة من اضواء الاقمار في ليالي الصيف.، أحسست بها خفيفة بين ذراعي وانا انزل بها الي القبر. كان نهدها يضغط علي صدري، ونحن متماسكان في الماء نغطس ونطفو، وغضت طرفها وغضضت طرفي).
 
اما العلاقات بين النساء والرجال فتتسم بالضجر والخيبة والجنون، بالاغتصاب والهلاك، هذه الصفات تجعل تلك العلاقات امتدادا للعزلة وتأكيدا لها. فاطمة نور الصباح لم ينل من اقتربوا من جمالها الصاعق الا الموت. وينتظر التوأمان الغريبان طويلا قبل ان يزفا علي عجل الي مريم وفدلم، ابنتي فاطمة، اللتين تغادران مخلفتين الاحزان الممضة لامهما. سميرة يختطفها الغول، تموت ثم تعود للحياة ولا ينال محبها الطاهر ود الزين الا الجنون.
 
واذ تتسم فاطمة نور الصباح بصفات ملائكية (ملكية علي التراجيديا الغربية الكلاسيكية)، تبدو سقطتها داوية كسقطة كل الابطال التراجيديين. اما هفوتها التراجيدية( الهمارشيا في المسرح الاغريقي) فهي هفوة القرية بمجملها: الضعف الجماعي للذاكرة. هذا يعني ان السقطة ستشمل الجماعة كلها. فأحزان فاطمة نور الصباح واغتصابها، وجدب عاطفتها وعزلتها تجتاح علي نحو ما كل شخوص الرواية تقريبا, موت بشير ابنها يشي بقرب موتها. اذن فتراجيديا موته هي تراجيديا موتها الوشيك. وعلي مدي الرواية تظل مأساتها عالقة بجو الحكي وتواتر الوقائع. كما يورث الاسلاف الخطاءون لعناتهم واسقامهم لأعقابهم مما يذكر بثيمات الكاتب المسرحي النرويجي الرائد هنريك ابسن. كذلك يستخدم الكاتب تقنية التناص للاشارة الي اعمال جارسيا ماركيز( لا احد يكاتب الكولونيل وخريف البطريريك مثلا) .
 
هذه رواية عظيمة بكل المقاييس، ورغم اننا نسعد بها كعمل سوداني كتابة ونشرا، الا اننا نعتقد ان الناشر كان يمكن له المساهمة في تلافي الهنات اللغوية ان اخضعها للمراجعة والتدقيق، وهذا جانب تقصير الناشرين العرب فيه بين ولابد من وضع اسس تضمن علاجه.
 
نشرت بجريدة الخرطوم العدد 2056 بتاريخ 11 مارس
 
1999
 
 
 
 
 
القاص والروائي (أحمد الملك)
المهاجر السوداني واصل العيش في هذه البيئات الجديدة بنفس عقلية الإغتراب
حاوره : الصادق الرضى
حين صدرت رواية "الفرقة الموسيقية" عن دار النشر جامعة الخرطوم في العام 1991م، بتصدير موجز على الغلاف الخلفى من د.بشرى الفاضل، كان جيل منتصف الثمانينيات الأدبى قد بدأ في إبراز مشاريعه وطرح انتاجه على الساحة وربما كان يتوكأ على عصى الشعر، صاحب الحظ الأوفر من المساحة في النشر والتوثيق، وعدا رواية "التراب والرحيل" للكاتب إبراهيم بشير التي صدرت في العام 1989م عن دار النشر جامعة الخرطوم، لم تعرف مخطوطات هذا الجيل الروائية، طريقها للمطبعة، وقد اعقب "احمد حمد الملك" روايته الأولى بأخرى "عصافير آخر أيام الخريف" التي صدرت عن المكتبة الاكاديمية، في العام 1996م ثم مجموعة قصصية بعنوان "الموت السادس للعجوز منوفل "صدرت عن دار" الأهالى "سوريا في العام 2001م".
وأحمد حمد الملك، من مواليد "أرقو" شمال السودان في 1967م، لقى تعليمه بأرقو ودنقلا الثانوية وجامعة القاهرة فرع الخرطوم "سابقاً"، يقيم الآن بهولندا، وله روايات تحت الطبع "الخريف لا يأتى مع صفاء" و"أمنية واحدة فقط للعمدة" و"فكى جديد في القرية" وقد فازت قصته المعنونة بـ"المشير يبحث عن بيته في شارع الأرامل "بجائزة مسابقة" صورة العالم "التي ينظمها مركز الفنون بمدينة خرونجن بهولندا.
إلتقيت به حول عدة محاور فإلى هناك
*حدثنا عن مراحل تكونك الأولى، ككاتب، عن تخلقك الثقافي الأول ومنابعه، ثم كيف أفلت من الشعر - الذاكرة البدائية- كيف قبضت على القاص والروائي داخلك؟
-ان كانت اللغة هي المرتكز الأساسى في صنع الحكاية، أجد أننى كنت دائما مفتونا بطريقة الناس البسطاء في سرد الحكايات كان لنا جار أسمه على الفقير عليه رحمة الله كان يجلس طوال اليوم في الشارع الرئيسي الذي تعبره العربات المتجهة الى مدينة أرقو أو مدينة دنقلا وكان عم على يركب ما تيسر من العربات أيا كان اتجاهها شمالاً أو جنوباً فلديه أغراض في كل الاتجاهات، وفي انتظار ظهور سيارة كنا نتحلق من حوله ونستمع الى حكاياته الشيقة والتي يكون بعض أبطالها من الحيوانات مثل الضفادع وكان يجيد محاكاة أصوات الطيور والحيوانات وكنت معجبا جداً بشخصيته الجوالة حتى أننى أسبغت كثيرا من صفاته على العجوز منوفل رغم أن منوفل نفسه كان موجوداً أيضا وكان هو الرجل الوحيد الذي أراه يضرب الرمل لكشف المستقبل فقد كانت المهنة مقتصرة على النسوة الأرامل، ويحكى أنه شاهد ذات مرة ماعزا تضع مولوداً ذكراً وهو يهم بدخول أحد البيوت وهكذا فإنه أفتتح نبوءاته بأن الماعز ستضع ذكراً، كما كنت استمتع جداً بمرافقة كبار المزارعين والاستماع لحكاياتهم وأذكر ذات مرة قبل سنوات أن أحد أصدقائي المزارعين قال لى وكنا نجلس مساء في حالة استنفار بسبب تهديد فيضان نهر النيل للقرية حينما قال لى فجأة (أحمد قالوا قاعد تكتب كتابات جميلة بالله ما تكتب لي بخرات يعالجن وجع الجسم ده!) وأذكر ونحن طلاب في الثمانينيات كنا ندرس في مدينة دنقلا فكنا نقضى أوقاتا طويلة في انتظار العبارة التي تأخذنا الى المدينة فكان هناك عجوز مرح يحكى حكايات مبهرة مثل قصة الباخرة التي كانت تحمل شحنة من البرتقال وفجأة في عرض النهر هاجمت سمكة ضخمة الباخرة فبدأ القبضان وبحارته يقذفون شحنة البرتقال نحو السمكة حتى تكف عن مهاجمة السمكة التي ابتلعت البرتقال كله وحينما لم يبق شيء من البرتقال القى القبطان نحوها بخواجة سائح كان يستقل الباخرة الى مدينة كريمة وبعد لحظات تمكن القبطان من قتل السمكة وحينما شقوا بطن السمكة وجدوا الخواجة جالسا في الداخل وهو يقشر البرتقال ! والمدهش انه كان يحكى هذه الحكايات وهو واثق تماما من أنها وقعت بالفعل ويفرض سطوة افتراضه على مستمعيه فيما يشبه السحر، كانت لى في البداية بعض المحاولات الشعرية ربما لم تصل مرحلة النضج ولابد أننى كنت متأثراً في تلك المحاولات برواد حركة الشعر الحديث في مصر وحتى اليوم لازلت استمتع كثيراً بشعر أمل دنقل، بسخريته الرهيبة وتعريته المريرة للزيف الذي يلون طابع حياة البشر.
*فيما يتعلق باللغة والأسلوب، ملاحظة ربما تكون قد ذكرت كثيرا حول تأثرك بالكاتب العالمى ماركيز، وكما تعلم فقد أشار بعضهم إثر صدور (الفرقة الموسيقية) الى تأثر ما بالكاتب "بشرى الفاضل" مع إشارة لقصته "ذيل هاهينا مخزن أحزان"، ماذا تقول ؟
-قلت كثيراً أن ماركيز قمة عظيمة ومدرسة لا يمكن لمن يمر بها أن يخرج دون أن يتعلم منها، إنه سلطان الرواة قرأت بندر شاه ومريود قبل أن أقرأ ماركيز فلم أشعر بصدمة الانتقال لبيئته المدهشة، من يعش في قرية في ريفنا تكون الأسطورة والمعتقدات الشعبية جزءاً من تفكيره اليومي في قصة نورا تطلب من المشير تأجيل غروب الشمس ما أن يغرد طائر أبو البشير حتى تنكشف ذاكرة نورا عن حلمها حبيس الذاكرة الذي لا تنفرط حباته الا بتغريد الطائر، وهكذا ستجد الناس يستبشرون بتغريد طائر ابو البشير يقولون لك بمجرد أن يغرد الطائر أن فلانا المسافر قادم في الطريق الآن وتفاجأ فعلا بوصول ذلك المسافر وهل جاء كتاب طبقات ضيف الله من فراغ ؟ الأسطورة جزء من حياتنا ولا شك ان بقاءنا قيد الحياة في هذا الزمان هو نفسه معجزة تساوى الأسطورة، أن كان ذلك واقعنا فكيف ستكون حكاياتنا التي ستسفيد من ذلك الفضاء الأسطورى والمنجز المتراكم في الوجدان الشعبى منذ عدة قرون، مثلا البعاتي أو السحار ليست جزءاً من الحكايات بل هي واقع يقولون عندنا مثلا أن سكان احدى المناطق المجاورة لنا ينتمون لفصيلة من السحاحير وأكد أناس ثقات انهم رأوا اشخاصا بعينهم ينتمون لتلك المناطق وهم يبرزون ذيلا طويلاً في بعض الليالي المقمرة!
لا شك أن د.بشرى الفاضل هو قامة ابداعية لا تضاهي وهو مبتكر الأسلوب الساخر الذي يستفيد من لغة مدهشة موازية للغة اليومية المبتذلة بعبارات مبتكرة وقد اعجبت دائما بانتاجه.
*تقيم خارج البلاد منذ فترة ليست بالوجيزة ترى ما هي ثمار المنفى وبالمقابل ما هي مخزون المرارة وتمثلاته بالنسبة لك كمبدع ؟
-صدمة مغادرة الوطن شلت مقدرتنا في البداية على استئناف اية مشروعات جديدة وكانت تلك قمة المأساة أنه لم يكن هناك من مخرج سوى ترك الزمن يعمل على ردم الهوة الوجدانية التي انفتحت بوجودنا في مجتمع جديد لم نساهم ولا حتى في اقتراح أسماء وتفاصيل وقائعه اليومية وبدأ لنا المطر الأزلى مجرداً حتى من ايقاع الحياة ما لم يثير رائحة الأرض العطن والروث : رائحة الحياة. كانت تلك مأساة لأن انتظارنا لردم تلك الهوة كان تسليما في الوقت نفسه باحتمال تغير طارئ في التركيبة الوجدانية وفي الاهتمامات اليومية، وحينما بدأنا نستوعب الصدمة، بدأ كما لو أن الوقت قد فات بالفعل للشروع في أشياء جديدة فكانت أولى تلك الثمار أن نعكف على مراجعة بعض ما أنجزناه داخل الوطن في محاولة للافادة من الملاحظات النقدية التي تناولت تجربتى الفرقة الموسيقية وعصافير آخر أيام الخريف فكانت النتيجة اعادة كتابة الخريف يأتى مع صفاء والتي كانت مكتملة لدى خروجى من السودان أواخر العام 1998م. ما عدا ذلك حاولت اخراج بعض انتاجي خاصة في القصة القصيرة لم ينشر وانا بالداخل ونشرت جزءاً منه في بعض الصحف العربية وفي صحيفة الخرطوم وشاركت في بعض المناسبات الفنية هنا في هولندا كان أولها مشاركتى بقصة المشير يبحث عن بيته في شارع الارامل في مسابقة مهرجان صورة العالم للكتاب الاجانب وقد حازت المركز الأول. الا ان حاجز اللغة يبقى اهم عقبة في أحداث تواصل مع المجتمع المضيف.
*عطفا على ما سبق، تلاحظ الهجرة التي حدثت لمثقفين ومبدعين سودانيين مؤخراً، نعتقد أنهم لم يستطيعوا أن يخلقوا حراكا ثقافيا بمهاجرهم كما حدث مع مهارجين شوام أو مغاربة ؟
-الوجود السوداني حديث نسبيا وطارئ الى حد كبير، بداية العقد الاخير من القرن الماضى شهد بداية الهجرة الكثيفة للخارج وكانت تلك بداية الانهيار الرهيب الذي طال كل أوجه الحياة في الوطن وتزامن ذلك مع اندلاع حرب الخليج الثانية وما صاحب ذلك من انحسار موجة الهجرة الى دول الخليج وبالتالى ظهور موجات من الهجرة الى اوروبا وامريكا. ورغم الاختلاف الشامل في طبيعة المجتمعات الغربية عن مجتمعات وثقافة دول الخليج الا ان المهاجر السوداني واصل العيش في هذه البيئات الجديدة بنفس عقلية الاغتراب والنتيجة انه في معظم الاحوال معزول ضمن نفس تجمعاته مهموم بمشاكل الوطن واسرته، يشعر بالخوف الشديد ويتعامل مع المجتمع الجديد بحذر مخافة ضياع شامل لثقافته وبالتالى لم يسع الا فيما ندر لانشاء حراك ثقافي رغم ان ذلك كان يمكن ان يكون جزءاً من استراتيجيته الدفاعية عن ثقافته خوفا عليها من الذوبان، المغاربة مثلا لديهم وجود مؤسس وقديم وقد سعوا للافادة من فرص الدعم التي تهيئها الدولة للتعريف بالثقافات الوافدة.
*تصدى النصوص للسؤال الاجتماعي السياسي بضراوة ؟
قبل فترة في مدينة خرونجن شمال هولندا كنت مشاركا في ندوة ادبية وتوجه الى احد الحضور بسؤال حول انشغالى الشديد بالهم السياسي والاجتماعي داخل بلادى وتساءل متى سنرى لك قصة أو رواية تعالج مشاكل الهجرة والاندماج داخل المجتمع في المهجر، فقلت له أننا قد لا نستطيع تحويل همومنا في الكتابة قبل مضى زمان تنحل فيه الشحنة المهولة التي خرجنا نحملها من الوطن والتي ازدادت وزنا وضراوة منذ سقوط النظام الديمقراطي وتدهور كل أوجه الحياة في بلادنا، فقال لى وكم من الوقت تتوقع ان يمر قبل ان تنحل تلك الشحنة؟ فقلت دون تردد : مائة عام .
*شهدت الساحة السودانية انتاجا ملحوظا ؟
-للأسف بدأت مؤخراً جداً في متابعة الكثير من الانتاج القيم، طوال سنوات لم يتسن لى ان اتابع سوى لفترة محدودة عبر صحيفة الخرطوم فترة صدورها بالقاهرة وقد اسهم الاستاذ احمد عبد المكرم في احداث دائرة تواصل بين الكثير من المبدعين الذين توزعوا في المنافي، لم ار اية اصدارة سودانية منذ حوالى خمس سنوات، ولكن لفتت نظرى قصص الاستاذ زهاء الطاهر التي عثرت عليها في جريدة الخرطوم من خلال بعض الاعداد القليلة التي وقعت في يدي بالصدفة، أو عبر بعض الاصدقاء الذين بعثوا بها من الخرطوم ، اعجبتنى جدا اعمال الاستاذ زهاء الطاهر ولا ادرى ان كان قد جمعها في كتاب أم لا ، مؤخراً بدأت أشعر ببعض الاستقرار وتابعت ما ينشر على الانترنت الذي اتوقع ان يكون قناة لتواصل بين المبدعين في الداخل والخارج ومختلف التيارات الفكرية والادبية، لانه قد يحل ضمنيا خاصة مع تنامي انتشار وسائطه، قد يحل مشكلة النشر العقبة الصعبة في وجه ابداع الشباب.
هل يمكن لـ(الأنترنت) أن يساهم في حل مشكلة النشر نسبة للابداع السوداني، هل بالامكان تأسيس حركة ما من خلاله، في ظل تقدمنا الحثيث للخلف المتحقق بصورة شبه يومية ؟
-الانترنت قطعا لن يحل المشكلة جذريا، لكنه سيقدم خدمة دون شك وتواصل مع سكان المدينة خصوصا شباب الجامعات والمدارس الذين لم تجرفهم بعد موجة قسوة الحياة اليومية، ليشكلوا بديلا للطبقة الوسطى التي سادت ثم بادت وكان اقتناء الكتاب بالنسبة لها من الاساسيات مثل الخبز، لكن هناك المناطق الريفية التي لم تنعم بأية خدمات ناهيك عن الخدمات الالكترونية ان كان التلفزيون نفسه لا يزال ترفا، المدرس المكدود طوال النهار من العمل في الحقل ثم اكمال اليوم ببضعة حصص في المدرسة حينما يعود الى البيت ومع مصباح الديزل يسحب كتابا ولا يستسلم للنوم دون أن يقرأ عدة صفحات منه، لا تزال لديه الرغبة في التواصل مع الكتاب يحتفظ بنظرته التقديسية للكتاب باعتباره منجزاً اعجازيا، كنت أجد مزارعين يقرأون اشعار نزار قباني وهم في غمرة مراقبة المياه التي تسقى حقول القمح في الشتاء، وهم يكافحون لابعاد العقارب التي تخرج من شقوق الارض والحيوانات الشاردة التي تهاجم المحاصيل ، هؤلاء قطعا لن يكون الانترنت بديلا للوصول اليهم وغيرهم كثيرون، لكنه عموما سيشكل دون شك فرصة للتواصل على الاقل بين من يجدون في خضم الصراع اليومي من اجل الحياة لحظة استراحة خارج وهم انه بالخبز وحده يحيا الانسان.
*غيابات كثيرة ، النقد الادبى بالخصوص ؟
-غياب النقد من المؤكد كان له اثر علينا جميعا كمبتدئين لم نجد اية نوع من الرعاية، رغم الاختراقات القليلة مثل تجربة صحيفة الخرطوم ايام صدورها بالقاهرة، ومن ثم تعين علينا في معظم الاحيان ان نضرب في الظلام دون هدف او ان ننصب من انفسنا رقباء بدون حياد، انا ادين بالكثير للاخوان هاشم ميرغني وبكرى جابر فقد كتبا عن عصافير اخر ايام الخريف والفرقة الموسيقية وبذلا جهدا في تقديم الروايتين للقارئ بصورة جيدة رغم المشاكل التي رافقت نشر عصافير اخر ايام الخريف مما جعلها تحفل بالاخطاء. الاجيال القديمة ستبدو كمن ينظر من عل دون اكتراث للانتاج الجديد ضمن نظرتها باحتقار لكل شيء باعتباره جزء من الانهيار الشامل الذي طال كل مستويات الحياة في العقود الاخيرة.
*هناك تكرار لبعض الاسماء والشخصيات في أعمالك، هل هناك مشروع معين تشتغل عليه في عدة نصوص ؟
-حين كتبت عصافير آخر ايام الخريف اكتشفت كما لو ان النص يضيق ببعض الشخصيات فاخرجتها خارج النص وبدأت في رعايتها بحرية اكثر فاكتشفت انها تستجيب بصورة اكبر لخروجها عن النص بل وتكون شخصية مستقلة مثل العجوز منوفل بدا اكثر ميلا بمجرد خروجه من عصافير اخر ايام الخريف لتكوين شخصية مستقلة اقل حيادية واكثر اخلاقية، ترى في كشف الغيب اداة للخداع بل لتجريم الحاضر وهكذا جاءت شيرا المجنونة وجاءت نورا التي ظهرت للمرة الاولى في رواية الخريف يأتى مع صفاء في دور كومبارس وهي تتقدم بعريضة عابرة للسيد المشير طالبة تأخير غروب الشمس حتى يتسنى لخطيبها الجندى الذي مات في اتون الحرب الاهلية ان يعود لانها حلمت بعودته في يوم يتأخر فيه غروب الشمس لما بعد صلاة العشاء، نورا خرجت لتؤدى البطولة في قصة قصيرة حتى أنها اثناء محاولتها انقاذ الرجل الذي سيحقق نبوءة تأخير غروب الشمس تبقى هي الوحيدة في القرية الناقمة على العائد المخبول تبقى الوحيدة التي تعتنى به وتستضيفه في بيتها وتحاول ان تساعده للامساك بزمام الذاكرة، اما المشير نفسه في رواية الخريف يأتى مع صفاء فقد حدث له العكس تماما فبدلا ان يخرج من رواية، خرج من قصة قصيرة واصبح بطلا لرواية، وذات ندوة ايضا في مدينة خرونجن التي تهتم بالاداب والفنون سألني احدهم نفس السؤال: الشخصيات تتكرر فقلت : بسبب صعوبة النشر للكتب اقتطعت بعض الحكايات من داخل مشاريع لروايات وبعتها بالقطاعي!
افكر متى تكون العودة ، اكتب رواية خارج سياق الاهتمامات المكررة، فكى يموت في قرية ما ويأتى ابنه لوراثة العرش ولكن بأوهام حديثة، ورواية اخرى تحكى مأساة اسرة تشتت شملها بسبب الحرب الاهلية الاولى ولدى رواية شبه جاهزة اسمها امنية واحة للعمدة، والامنية الوحيدة لذلك العمدة هي ان يصبح عمدة فهو لم يكن قد توج بعد وان حاز مسبقا على اللقب حينما توفى والده وبقى هو طوال سنوات يستعد لاداء دور العمدة وفي اللحظة التي تبدأ فيها مراسيم تنصيبه تدق المارشات العسكرية لانقلاب مايو الذي الغى نظام الادارة الاهلية، لينتهج العمدة طريقا ثوريا اثناء انتظاره لسقوط النظام ليحقق حلمه شاغلا نفسه اثناء ذلك بالزواج حتى تسخر احدى زوجاته من ثوريته حين تقول له انه العمدة التقدمي الوحيد في العالم !
 
 
 
 
الملف الثقافي / السبت
عثمان شنقر
 
 
بصدور روايته : الخريف يأتي مع صفاء, قبل اكثر من عام يكون الروائي الشاب احمد حمد الملك المقيم بهولندا
 
 منذ اكثر من ست سنوات قد اودع في المكتبة السودانية اربع اصدارات روائية وقصصية إبتدرها بروايته الاولى
 
 ( الفرقة الموسيقية) في عام 90 -عصافير آخر الخريف عام 95- الموت السادس للعجوز منوفلي عام 2000,
 
 واخيرا هذه الرواية التي صدرت نهاية العام الفائت.
 
للوقوف على تجربة هذا الكاتب كان لنا معه هذا الحوار عبر البريد الالكتروني فالى افاداته
 
1/ في اخر رواية لك الخريف يأتي مع صفاء هناك تحول في طريقة السرد والحكي
الذي انتهجته في الروايات السابقة وهو سرد يعتمد على الجمل الطويلة والجمل
الاعتراضية والشروحات هذا التحول ربما جاء لصالح السرد بطريقة او اخرى وهو
انك تخليت عن تلك الجملة الطويلة ما هي استراتيجيتك في هذا ؟
لك الشكر ايها الصديق عثمان علي هذه الاستضافة الكريمة. الحقيقة انني بدات في كتابة الخريف يأتي مع صفاء في العام 1997 واعدت كتابتها مرة اخري بعد حوالي عامين، حاولت اثناء اعادة الكتابة تلافي المشاكل الفنية التي جعلت قراءة عصافير اخر أيام الخريف صعبة لدي بعض القراء. كان في بالي دائما قول بعض المهتمين بالرواية من القراء ممن اوضحوا لي ان التقنية التي كتبت بها تلك الرواية جعلت متابعة وقائعها أمرا بالغ الصعوبة . ربما لا اكون فارقت ذلكم الدرب تماما ولكن حاولت تخفيف تشابك الوقائع وجعل خطها هادئا بصورة ما.
/2 قصة المشير يبحث عن بيته في شارع الارامل هل كانت الاساس الذي قامت
عليه الرواية والى اي مدى يمكن تحول قصة الى رواية مع العلم باختلاف طبيعة هذين الجنسين؟
زمن القصة بالطبع قصير جدا، بالنسبة لي اية مشروع للكتابة يبدأ في صورة قصة او حكاية ويظل مفتوحا اثناء تكونه لكل الاحتمالات قبل أن يأخذ الشكل النهائي. والحقيقة ان كل القصص القصيرة التي كتبتها تظل بالنسبة لي مشروعات لروايات. في قصة المشير يبحث عن بيته، بدت لي شخصية المشير قلقة ومكتنزة وأكبر من حجم ذلك النص الصغير. مثل عملاق يحشر داخل غرفة صغيرة. جربت ان احاول اخراجه للهواء، اواجه به العالم،فوجدت انه يكاد يفلت من يدي احيانا وهو يحاول استعادة اواصر علاقة مشوشة مع العالم. فكانت الخريف يأتي مع صفاء.
3/ الباحث الهولندي الذي قام بكتابة تقرير عن هذا الراوية بغرض ترجمتها
الى اللغة الهولندية قال ان القراء عندما يطالعونها فانهم يقراءون في سياق
انها مكتوبة عن دكتاتور من العالم الثالث ولكن السودانيين فان هذا الدكتاتور
سيعى بينهم الا تعتقد ان الموضوع ما زال حياً في الذاكرة للكتابة حوله ؟
لو كنت تعني بالمشير الرمز للديكتاتورية العسكرية فهي ليست حية في الذاكرة فقط بل هي حية تسعي بين الناس ورغم ذلك ننساها بسرعة ونسعي للتعايش معها. وربما كان ذلك أحد اهداف الرواية: الاشارة الي مكمن الالم الذي يكاد يتواري في النسيان. ثم ان جزءا من الحكاية نفسها اصبح في ذمة التاريخ.
4/ فازت قصة المشير بجائزة صورة العالم في هولندا وهناك مشروع لترجمة
الرواية للغة الهولندية .. اتسأل الى اي مدى وفر لك المهجر منابر وامكانيات
للاطلال على قارئ اخر محتمل ؟
قبل اكثر من عام وافقت احدي المنظمات الهولندية العاملة في حقل الثقافة علي تبني ترجمة رواية الخريف ياتي مع صفاء الي الهولندية، لكن تسير العملية بطء ، بسبب تعقيدات الترجمة وغلاءها في المقام الاول، اذكر انني تحادثت انذاك مع ناشر هولندي وسألته عن مدي القبول الذي تجده الكتابات القادمة من افريقيا والمشرق العربي عموما فقال لي انها لا تجد قبولا يذكر من القارئ الهولندي الذي يقرأ الاداب الاوروبية والامريكية والادب القادم من امريكا الجنوبية. هناك كاتب ايراني اسمه قادري عبدالله وجدت كتبه رواجا كبيرا وفي اعتقادي انه نجح بسبب اتقانه للغة الهولندية واستخدامه لها في الكتابة ومخاطبة القارئ مباشرة. هناك عدة منظمات ترعي الانشطة الثقافية وتدعمها لكن اجادة اللغة تبقي اهم وسيلة للاطلال علي القارئ هنا كما انها تختصر الطريق الذي يمر بعملية الترجمة بكل تعقيداتها.
5/ معظم الذين هاجروا من الكتاب والمبدعين اخذتهم تفاصيل اخرى غير الكتابة
فالى اي مدى يخصم - يضيف المهجر للمبدع خصوصا اذا كان روائياً؟
دون شك انني لو لم اهاجر لكنت انجزت حتي الان ضعف ما انتجت، صدمة الخروج من الجو الذي اعتدت علي ان اعيشه اثناء الكتابة سلبتني ولو الي حين القدرة علي المتابعة. هنا توجد كثير من العوامل التي تحفز التفرغ لممارسة الابداع، لكن الانسان يشعر حسب تجربتي انه انفصل عن منابع الهامه وبالتالي خاصة في السنوات الاولي تتعثر التجربة ثم تصبح العودة الي طقوسها امرا صعبا. حين يسألك البعض لماذا لم تدخل تجارب تكتب فيها عن حياتك الجديدة تشعر فقط بعمق الهوة، انك تفقد التواصل مع منابعك القديمة وفي الوقت نفسه توجد حواجز ما بينك وبين هذا الزمان الجديد، تشعر بوطأة الحنين الي المنابع الاولي والشعور بالذنب تجاه خروجك من نفاصيل تلك الحياة، يصدانك عن اقتحام هذا العالم الجديد. والنتيجة محلك سر.
6/ رواية عصافير اخر ايام الخريف يعاني معظم الذين يقتونها من صعوبة
قراءتها نسبة لمشكل طباعية الا تفكر في اعادة طبعها مرة اخرى؟
الحقيقة انني افكر في اعادة طباعتها بعد تنقيحها من الاخطاء الكثيرة التي جعلت قراءتها امرا صعبا للغاية والحقيقة انني لا زلت متأرجحا بين رغبتي في ان احاول طباعتها بنفسي او ابحث عن ناشر يتولي الامر رغم ان معظم تجاربي مع الناشرين شابها الاحباط.
7/ معظم من قراء لك يقول انك متأثر بماركيز -السؤال :كيف يمكن لكاتب ان
يتأثر باخر مع اختلاف اللغات؟
كما سبق لي القول أن ماركيز مدرسة لا يمكن لمن يمر ها ان يخرج دون ان يتعلم منها شيئا.
شدتني اليه السخرية الرهيبة والعوالم التي لا يمكن تصديق انها ليست نفس عوالمنا التي عشنا فيها.حياتنا اليومية تمتزج فيها الاساطيربالحقيقة. فان اضفنا لها الهموم اليومية المتشابهة، مظاهر عدم الاستقرار السياسي والانقلابات العسكرية. تتوحد كل هذه العوامل لتشيد لغة واحدة.
 
حوار مع الحسن بكري
 
كيف تكتب الرواية ولماذا تكتبها أصلا وهل صحيح أن كتابة القصة القصيرة تحتاج إلي مهارات أعلي كما يزعم كتاب عديدون؟
 
كتابة الرواية حسب تجربتي المتواضعة تحتاج أولا الي الاستقرار، ولا جدال بالطبع أن الاستقرار هو شعور نفسي بالالفة مع الاشياء من حولك، يمنحك الامان. في بيتنا قبل سنوات حينما كنت أكتب "عصافير اخر ايام الخريف"، كنت أشعر أنني جزء لا ينفصم عن تلك الحياة الوادعة التي كانت تعبر من حولنا، صوت الحيوانات الهائمة في الخارج، أصوات شجار الصبية في طريقهم الي المدرسة رائحة القهوة الطازجة في صباحات صديقنا الأستاذ طه محجوب الندية، وصوت الخطوات الرتيبة لإيقاع الحياة في خمول ساعات الضحي. تلك التفاصيل خرجنا منها فكان الثمن الذي ندفعه أن نفتقد ذاك الامان وتلك الحياة الوادعة فينتهي بنا الحال لاجترار الذكريات ونكتفي من تجارب الكتابة باعادة تنقيح ما سبق لنا ان كتبناه هناك . في ذلك الزمان كان مشروع الكتابة يبدأ بمجرد فكرة ، تكون لحظة البداية صعبة للغاية خوفا من الفشل ولكن بمجرد أن تتشكل بعض ملامح العمل تسير الامور بسهولة اكثر.
زمن الحكاية في القصة القصيرة قصير قياساً بالرواية التي تتيح مساحتها المفتوحة الدفع بشخوص جديدة كلما بدأ النص في التخلخل. بالنسبة لي، مشروعاتي الروائية تبدأ في العادة من قصص قصيرة، مثلما حدث في الرواية الأخيرة. فالمشير الذي كان يبحث عن بيته في شارع الأرامل في القصة القصيرة التي نشرتها بهذا الاسم، شعرت به يتململ من النص الصغير الذي لم يكن كافيا ولا حتى لتتضح فيه صورته التي أثارت جدلا بين أهل القرية الغارقين في وهم أمجاده التي بدأت في التشكل في الذاكرة الجماعية بمجرد سماع اسمه في جهاز الراديو وذكر أنه ينتمي إلي القرية بحكم مولده فيها . إلا أن بعض شخوص "عصافير آخر أيام الخريف" تحررت أيضا من زحام النص وأصبحت لاعبا رئيسيا في قصص قصيرة مثل شيرا المجنونة والعجوز منوفل .
 
 
السرد في "عصافير آخر أيام الخريف" حشد من الذكريات المؤلمة والأسطرة وتمتزج فيه الأحاسيس الإنسانية بجموح الطبيعة علي نحو مأساوي في كثير من الأحيان، ما الذي يحفز لديك هذه الأخيلة البديعة التي تصف الواقع بقدر ما تبتعد عنه؟
 
أتذكر أنني أيام شرعت في كتابة "عصافير آخر أيام الخريف"، كان الوقت شتاء. أجلس في غرفة واسعة غارقة في ضوء الضحى الباهت في الصمت الذي يقطعه تغريد حزين لطائر الهدهد، أراه عبر النافذة فوق الجدار الطيني. حين استمع لتغريده أعرف أن العاصفة ستهب بعد قليل كما سمعنا من جداتنا وبالفعل بمجرد أن يفرغ الطائر من غنائه ويطير باتجاه الحقول حتى تبدأ العاصفة، إنه شهر أمشير الذي تغلب علي أيامه الكتاحة التي تساعد في مكافحة الكثير من الآفات التي تهدد المحاصيل الزراعية.
في الفناء نجلس نلتمس الدفء في ضوء الشمس وحين يغرد طائر أبو البشير تقول جارتنا إن فلانا سيحضر الآن. وبالفعل نجده قد حضر من السفر بعد قليل، تمتزج حياتنا نفسها بالأسطورة، فلا نكاد نلحظ الخيط الرفيع الذي يفصل بينهما. مجتمع القرية غني بالمشاهد اليومية المؤثرة، كان هناك العجوز منوفل الرجل الذي يضرب الرمل وكانت معظم نبوءاته تصلح للاستهلاك المحلي، يقول هذه الماعزة ستلد ثلاثة وتصدق نبوءته لا لمقدراته الخارقة ولكن لأنه رآها وهي تضع صغارها لحظة دخوله البيت. هناك الشاب الذي يعبر القرى علي حماره وهو يعلن وفاة شخص ما والذي فقد مصداقيته بعد أن علم الناس أنه كان كلما تشاجر مع شخص كان يسارع بالإعلان عن وفاته وحين يتقاطر المعزون يكتشفون أن الميت نفسه هو الذي يستقبلهم!
نبعت القصة من تلك التغيرات العميقة التي بدأت تحدث بيننا، في مجري حياتنا؛ بدء انهيار الأشياء الجميلة التي كانت تبدو لسنوات ثابتة، راسخة، لا يستطيع تغييرها مجرد حاكم عابر تأتي به دورة تقلبات السلطة، فنبعت فكرة الغريب الذي يحدث بوجوده المأساوي عن طريق الخديعة خللا في كل نظام الحياة في القرية .
 
 
أعتقد أن العجوز منوفل يظهر في مشهدٍ واحد في "العصافير" ثم خصصت له قصة قصيرة كاملة, "الموت السادس للعجوز منوفل". لماذا يظهر في "العصافير" خصوصاً وأن الرواية تحفل بالشخصيات التي تمتلك القدرة على كشف الغيب، كما فعل هو في مشهده؟ هل هو احتفاء بالحياة كما ألفتها في الواقع؟
 
العجوز منوفل ظهر في العصافير في مشهد عابر، كانت صورته راسخة دائما في ذاكرتي ببعدين لشخصين مختلفين تماما. كان لدينا جار يعمل بائعا متجولا وكنا ونحن صغار نجده في كل وقت في الطريق الرئيسي في انتظار سيارة تقله إلي أي مكان فهو لديه مهام في كل الاتجاهات. وفي انتظار ظهور سيارة ما كنا نتحلق من حوله ونستمع إلي قصصه وأساطيره الجميلة وكان يجيد محاكاة اصوات الطيور والعصافير. وشخصية أخري لرجل يحمل الاسم نفسه يضرب الرمل ويتنبأ بالمستقبل. مزجت أنا بين الشخصيتين فبدا كأنني اصنع انفصاما، بين الأخلاق والاحتيال فكان هناك العجوز منوفل في "العصافير"، لا يتنبأ إلا بالموت، يحدد ساعة الاحتضار أفضل من كل الأطباء، لكنه حينما ظهر في القصة القصيرة التي تحمل اسمه يبرز تناقض في قبول الناس لشخصيته، فالنسوة في القرية يؤيدن حياته والرجال يؤيدون موته وهكذا حين كتبت القصة عام 1995 ونشرت فيما بعد ضمن المجموعة القصصية التي تحمل الاسم نفسه عن "دار الأهالي" كان سقوط النظام الديمقراطي قد أكمل ذاك العام ستة أعوام. هنا ظهر العجوز منوفل تصحبه نفس أوهامه التنبؤية بيد أنه اكتسب مظهرا أخلاقيا، فالمصاعب التي يثيرها أما من يطلبون خدماته في كشف المستقبل يبقي غرضها نبيلا في النهاية لمصلحة الشفافية وتطور الأحوال إلي الأمام وفق ديناميكية متزنة للإصلاح، حتى أن الرجال الذين تعاطفوا مع إشاعة موته في البداية شعروا بالحزن حينما اكتشفوا أهمية وجوده.
 
 
شيرا المجنونة بأحزانها التي لا تحدها حدود، هي وحدها المعصومة من الحزن، هذه رواية صاغ الأسي بنيتها وشخوصها، أليس كذلك ؟
 
شيرا عصمت نفسها بدراستها لعادات الحزن ومن ثم مكافحته بمنطلق خير وسيلة للدفاع هي الهجوم، فامتلكت المبادرة، لكن دون شك أن فاطمة نور الصباح، الشخصية المحورية، كانت غارقة في الحزن منذ المساء المشئوم الذي تعرض فيه ذلك الغريب لها. فاطمة نور الصباح كانت في ذاكرتي دائما تجسد امرأة أحببتها كثيرا هي جدتي، لم استطع أبدا أن أتخيل امرأة أخري حينما أتذكر فاطمة نور الصباح. كانت جدتي تلك تتمتع في صباها بجمال غير عادي وكنت دائما مفتونا بمسحة الحزن التي تشرق من عينيها، وأذكر عند وفاتها أنني شعرت بحزن لوّن حياتي لفترة من الزمان. لابد أنها بقيت في نظري رمزا للفضيلة ولقيم الزمان الغابر التي سحقت في ظل عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي .
 
 
لكن شيرا رغم عصمتها، تفتك بها الوحدة ويطاردها الجنون. أقصد أن الحزن يظل يطارد شخصياتك، حتى في أفضل أحوالها.
 
في "العصافير" ثمة خلل يطرأ علي منظومة الحياة في القرية التي كانت تعيش حياة وادعة، الحزن كان أهم أثاره، يخيم فجأة علي كل الاشياء فتفقد تناغمها الغابر. تبدو لي شيرا المجنونة من علي البعد امرأة عصمت نفسها من الحزن بمجهود عقلي، لكن وجود الحزن كان حقيقة وجودها هي نفسها، فقد انشغلت بمكافحته حتى غدا جزءا منها لدرجة أنها تحتال لرشوة الموت بلبن ماعزتها أحيانا وتطارده أحيانا أخرى بالعصا لتطرده خارج حدود مملكة أوهامها. أذكر شخصية جارة عجوز لنا كان بيتها يشبه بيت شيرا المجنونة، متاهة صغيرة، مصنوعات يدوية وجلود حيوانات وأدوات غريبة تشعرك كأنك في مغارة أسطورية .
 
 
تتكرر المشاهد والصور بتواتر ملحوظ في العصافير. هل يمثل هذا التكرار حيلة سردية مقصودة؟
 
ربما تأثرنا بطريقة سرد الراوي المحلي للحكايات. يبدأ حكايته ثم يقطعها حين يصل أشخاص آخرون ليشرح لهم بعض الوقائع التي سردها من قبل حتى يدخلهم إلي أجواء حكايته ولكن عموما اعتقد أن ذلك محاكاة للأسلوب الشعري . حيث البداية لا تصبح بداية بل استطرادا دائريا يطفو إلي السطح كلما بدأت حرارة النص في التراجع.
 
 
هناك بعد ماركيزي في العصافير هل قرأت ماركيز بدرجة تجعلك تستبطنه، علي الأقل في هذه الرواية ؟
 
لا أنكر أنني قرأت ماركيز بعمق وأحببت فيه سخريته الرهيبة. أجواء رواياته تشبه دون شك نفس تفاصيل أساطير حياتنا اليومية، نفس تلك الأجواء التي رأيناها في بندر شاه وضو البيت، نفس حكايات جداتنا. حينما تمتزج مثل هذه الأساطير بالوقائع اليومية، بعدم الاستقرار السياسي والانقلابات العسكرية والحروب الاهلية، هل يبقي من فرق بين عوالمنا السعيدة وبين عوالم ماركيز ؟
 
 
بالنسبة إليّ، "العصافير" لا تقل جمالاً عن أعظم أعمال قارسيا ماركيز. أعتقد أنها تحتاج لمن يتوفر عليها فيبيّن أسرارها. هل نالت أعمالك دراسات نقدية كافية وكيف تقيّم تلك الدراسات؟
 
كتبت عن "عصافير آخر أيام الخريف" عدة مقالات ودراسة قيّمة كتبها الدكتور هاشم ميرغني أضاءت الكثير من جوانبها. فمثلاً تناولت هذه الدراسة الانحراف الأسلوبي في الرواية وكيف أنها استفادت من الكلمات اليومية العادية المبتذلة ولغة الصحافة والبلاغات الرسمية. أعتقد أن هناك أسباب كثيرة حالت دون وصول الرواية بصورة جيدة إلى عدد أكبر من القراء وبالتالي النقاد. طبعت الرواية عل عجل فلم يتسن تصحيحها من الكثير من الأخطاء اللغوية كما أن طابع الرواية خالف مواصفات الورق المتفق عليه فطبعها على ورق يجعل قراءتها صعبة للغاية إضافة لتكدس الصفحة مما يجعل القراءة غير مريحة إطلاقا، وإذا سلمنا أن الأسلوب نفسه كان صعبا في أحيان كثيرة ويحتاج لجهد للمتابعة وعدم التوهان في النص، فلابد أن مشاكل الطباعة قد زادت الأمر تعقيدا. فوق ذلك، فانه لم تطبع منها بسبب تلك الأخطاء نسخ كثيرة في الطبعة الأولى. عموما أسعي لإعادة نشرها بعد تنقيح الأخطاء التي رافقت طبعتها الأولي
 
 
يتنقل السرد بين أكثر من ضمير روي في العصافير أحياناً. أهي محاولة للقفز على الشكل التقليدي لتصنيف الراوي؟
 
الراوي في العصافير لم يكن شخصا واحدا بل تعدد بحسب مقتضي المشهد وربما كان ذلك هو السبب الذي جعل البعض يقول بصعوبة متابعة الوقائع في "العصافير"، فظهور أكثر من راوي أثار ارتباكا لدي بعض قراء الرواية. كان تصوري للراوي كمجموعة من المرايا تعكس مجموعة من الوقائع في وقت واحد .
 
 
نشرت لك رواية ثالثة مؤخراً وتكتب قصصاً قصيرة بانتظام. كيف تجد الكتابة بعيداً عن الوطن؟
 
طوال غربتي التي أوشكت علي الخمس سنوات لم أكتب شيئا جديدا سوي قصة قصيرة وبعض الحكايات عن شخصيات حقيقية عاشت معي في القرية. الرواية الثالثة كانت جاهزة لدي عند خروجي من السودان أواخر العام 1998 ما أنجزته في المهجر هو أنني أعدت كتابتها وتنقيحها، ولدي مشروعات روائية بدأتها جميعا في السودان، أحدها مكتمل تقريبا. كما ذكرت لك ربما تعودنا في السنوات الماضية أن نكتب وفق شعور بالأمان يوفره لنا البيت الذي عشنا فيه والحياة البسيطة الطيبة التي كنا نحياها. بعيداً عن الوطن, لسوء الحظ لم ننعم بالاستقرار وشعرنا بأنفسنا ننتزع من أحضان زمان أحببنا كل تفاصيله. وأمسينا في سن ليس بمقدور الإنسان أن يبدأ بها أية مشروعات جديدة.
 
 
ما رأيك في المشهد الأدبي السوداني بشكل عام والقصصي على وجه الخصوص؟
 
هناك الكثير من الأقلام الموهوبة التي لمعت مؤخرا رغم عوائق النشر. معاناة السنوات الأخيرة من القرن الماضي ومطلع القرن الحالي ثم تشتت الكثير من الشباب في المنافي والمهاجر والقضايا العديدة التي طرحت بإلحاح في هذه السنوات حول الهوية، وتعقد مشاكل بلادنا عموما وقسوة الحكم العسكري، كل هذه الوقائع ربما حفزت أو ساهمت في ظهور الكثير من الابداع الذي نتلمس خطاه رغم بعدنا عن الوطن
 
 
 
 
 
حوار مع الروائي والقاص أحمد حمد الملك
.
س (1) الأستاذ أحمد حمد الملك , سأستهل حواري معك (على غير المعتاد في الحوارات ) من نقطة في منتصف الحوار , تتعلق بإطراء الروائي المصري جمال الغيطاني لروايتك عصافير آخر ايام الخريف وحماسه الشديد للفرقة الموسيقية (في حوار كنت قد أجريته معه قبل فترةليست طويلة).. كيف قابلت هذا الإطراء وهو صادر من روائي بقامة الغيطاني ؟ بالطبع هذا السؤال على خلفية دعوة الروائي ابراهيم اسحق ابراهيم للمبدعين السودانيين( في أحد الحوارات التي أجريت معه) بأن يعملوا على تقييم أعمال بعضهم البعض, في ظل الغياب النقدي للمشهد السردي السوداني ( وفي ظل سيادة ثقافة الشلة والأستاذ والتلاميذ التي تحكم المشهد السردي (هذا في تصوري أنا , لا ضمن تصور الأستاذ ابراهيم اسحق والذي أؤيده تماما ) على خلفية هذه القضايا المتشابكة كيف أستقبلت إطراءالاستاذ الغيطاني؟.
 
أسعدتني كثيرا شهادة الاستاذ جمال الغيطاني كونها تصدر من مبدع كبيريأتي في مقدمة أفضل الروائيين العرب، كذلك كونه متابع من موقعه كناشط في الحقل الثقافي لكل الانتاج الادبي. أتفق مع ما ذكرته انت ايضا يا استاذ أحمد بخصوص مسألة النقد. رغم أنني أري أيضا أن مسألة النشر التي تقعد بإنتاجنا الادبي عموما تترك اثارها أيضا علي عملية النقد والتي يفترض انها تنبني علي المتابعة لكل ما يصدر من انتاج أدبي تحكمه أو تتحكم فيه مشاكل وتعقيدات النشر.
 
 
 
س (2) ووجهت روايتك "عصافير آخر أيام الخريف" لدى ظهورها في الوسط الثقافي بتعليقات إنطباعية قد تكون وصلت إلى سمعك . تتمثل هذه التعليقات الإنطباعية بأن عصافير آخر أيام الخريف هي رواية على خلفية مائة عام من العزلة .. هل ترى أن ثمة علاقة حوارية بين نصك عصافير ومائة عام من العزلة ؟.
لا أنكر أنني تأثرت بماركيز فهو في النهاية مدرسة لا يمكن لمن يمر بها أن يخرج دون أن يتعلم شيئا، لكنني في النهاية حين كتبت عصافير اخر أيام الخريف كنت متأثرا بقراءاتي في التراث الشعبي والاساطير الواردة في كتب مثل كتاب الطبقات. والحقيقة ان عبقرية الكتابات التي قامت علي مفهوم الواقعية السحرية أو قام عليها هذا المفهوم، مثل مائة عام من العزلة أو بندرشاه أنها تفتح الرؤيا علي العالم السحري الذي يتكون منه عالمنا اليومي القائم فعلا علي الاسطورة. أذكر أنني كتبت مرة عن تجربة كتابة عصافير اخر أيام الخريف فقلت أنني كنت أجلس للكتابة داخل غرفة يتسرب الي داخلها صوت تغريد طائر الهدهد الحزين فوق الجدار، فيضفي غناءه الحزين الذي يتماوج صداه في الافنية شعورا طاغيا بالوحشة والوحدة تزيد من قتامة الشتاء .فأتذكر قول جدتي ان تغريد الهدهد ينبئ عن قرب هبوب رياح الشمال، وبالفعل تهب عواصف أمشير بعد قليل من انطلاق الطائر في الفضاء.
 حين اخرج أثناء الكتابة لاستريح قليلا ، نجلس في الفناء الواسع نبحث عن الدفء في ضوء الشمس، يغرد طائر أبو البشير( نوع من العصفور الدوري) فتقول جارتنا العجوز أن تغريد الطائر يعني أن فلانا المسافر سيعود من السفر، وبالفعل يعود فلان من سفره. تلقي جارتنا العجوز بحبات الودع فتري الرسائل التي تشق طريقها بصعوبة في البريد الذي يعتمد علي الصدفة. ويتوقف في الخارج عجوز اسمه منوفل ليتنبأ بأن الماعز التي رآها تضع أطفالها في الخارج ستلد ثلاثة أطفال. تحكي جارتنا قصة رجل وأمرأته يعيشان في جوارنا ويدمنان الشجار. تذهب الزوجة للفكي فيعطيها عملا مهمته تهدئة الزوج فيتحول مؤقتا الي زوج أليف .
 قلت لها (وأنا أرقب الاحذية تتطاير في فضاء فناء بيتهما الملاصق لنا) لماذا اذن يستمر شجارهما ما دام (العمل) يعمل!؟ فتقول تكون التهدئة مؤقتة حتي يذهب الزوج الي نفس الفكي ليدفع مقابل ابطال العمل وفي المسافة لحين عودة الزوجة الي الشيخ مرة اخري تكون هناك فترة فراغ (دستوري) يستعيد فيها الزوج مبادرة الشجار!.
 تلك هي الاجواء التي كانت جزءا من الجو العام الذي شكّل فضاء تلك الرواية. الحياة اليومية التي تمضي الاساطير ضمن تفاصيلها بحيث لا يمكن الفصل بينهما.
 
س (3) في قراءة لي , كنت قد أجريتها حول "عصافير آخر أيام الخريف" لاحظت تشظي صوت الراوي إذا جاز التعبير , وخطر في ذهني أنه ربما لذلك علاقة بأجواء الهجرة والأغتراب اللتين تنهض فيهما الرواية فهي رواية تعج بالغرباء . كيف تنظر لهاتين القضيتين , تشظي صوت الراوي كتقنية . والتشظيات النفسية المسقطة من مناخات الغربة والغرباء ؟
 
يكاد الوعي بالاشياء ينطفئ مع تغلغل وجود الغريب، فتبدا مستويات جديدة للسرد، توازي التغيير الذي يتسرب الي كل تفاصيل الاشياء حتي بأثر رجعي فتتسمم حتي الذكريات. كأنه يجب ان يبق شخص ما - ولو الي حين - بعيدا عن التأثير الطاغي الذي يلجم الوعي ليستمر في السرد. قبل أن يسلم الراية الي غيره، يبدو لي ذلك أقرب الي ما قصدته الرواية حين كانت اضاءة الوقائع تخفت ثم تعود تدريجا بأصوات جديدة هم في الواقع شهود جدد.
 
 
س (4) رائحة نوار الليمون( وليل نوار الليمون المشحون بضؤ قمر لطيف ومتواطيء في آخر أيام أمشير من قبل غريب) كمقترح سردي يهيمن على فضاءات" فاطمة نور الصباح" كبنية حكائية مركزية في "عصافير الخريف" ماذا يمثل في العالم الحقيقي لاحمد الملك؟
 
ثمة إعصار مركزه في الذاكرة وأمواجه تتمدد فوق خيوط أدق التفاصيل اليومية. ربما مثل الشمس تنسحب الخيوط لحظة الغروب الجمعي للذاكرة المنثورة فوق التفاصيل اليومية. تعود الي مركزها بعد أن وسمتها تلك التفاصيل بروائحها. ربما يمثل لي ذلك نوعا من الحنين، الحنين المبهم الي زمان غير محدد التفاصيل لا يمكن الاستدلال عليه الاّ بتتبع تلك الرائحة. الرمز.
 
 
س (5) كل من يتزوج "فاطمة نور الصباح" يموت , حتى الطبيعة تموت لدى مرورها , كأنها مرصودة ومنذورة للموت , من جهة أخرى يموت كل اولاد سيد البيت الكبير الموت ونبوءات الموت يهيمنان على فضاءات "عصافير الخريف" (حتى عندما تعود سميرة للحياة على نحو ميتافيزيقي) على الرغم من أن الخريف رمزا للخصب والحياة ؟
فاطمة نور الصباح كانت رمزا لحياة وادعة، حملت بذور قوتها في تسامحها وضعفها الظاهري. وحين تنقلب الاحوال بظهور ذاك الغريب، الذي يسعي دون كلال لاحلال زمانه الخاص عبر الغاء الذاكرة الجمعية. تتحول طاقة الضعف تلك الي قوة أشبه بالموت ربما لتدافع عن وجودها.
 
س (6) في قصتك القصيرة (حكاية الزين عبد العاطي الذي عاد من الموت) نجد الواقع الزائف و" ضآلة الإنسان" , وتراجع قيمته التي في تناقص مستمر , ماذا تود أن تضيف في هذا السياق ؟ …
كتبتها قبل أكثر من عشر سنوات، يبدو لي عبد العاطي أقرب لرمز لبصيص الأمل في الحرية والعدالة، فقد مات في المرة الاولي في أواخر يونيو، وحين يعود في المرة الأخيرة من داخل نفس الدائرة الجهنمية، هل سيجدنا مثلما تركنا في زمن اخر؟ لو كانت تلك نبوءة قبل أكثر من عقد يبدو أطول من قرن كامل، أحسب أن جزءا كبيرا منها تحقق وأننا فقدنا الكثير وليس فقط عدة سنتيمترات من أطوالنا الحقيقية بحيث أنه لو مر قرن أقصد عقد اخر مثله لتعذر لنا أن نري أنفسنا بالعين المجردة..
س (7) في القراءة النقدية المهمة للأستاذ بكري جابر في روايتك" الفرقة الموسيقية" يقول : أن لجؤك "الي الفانتازيا هو من اجل خلق عالم اسطوري مواز للواقع الاسطوري خارج الرواية، ذلك الواقع الذي يضج بالغرائبية والعبثية واللامنطقية بصورة اكثر مما هي متحققة في عمل فانتازي متخيل. وبذلك تشكل الرواية عبر بنائها الدرامي المحكم وشخصياتها الممسوخة وتهكمها الصارخ أعلي هجائية للواقع وللتاريخ معا. ذلك الواقع المكتظ بالزيف والنفاق والاستبداد والتسلط والذي يسحق القيم والمبادئ ولا يقدم لانسانية الانسان شيئا سوي العدم."كيف تنظرالى ذلك؟.
س (8) التحررمن عنصري الزمان والمكان( اللذان يستند اليهما معمار أي عمل درامي وسردي، حتي ليبدو وكأن قولها ينسحب علي كل الازمنة والامكنة، وهذا الافلات من قبضة الزمان والمكان) إلى جانب تكسير وحدات السردكما لاحظ بكري جابر على نصوصك السردية (رواية وقصة) يجعلنا نتساءل : ما الذي تقترحه بهذه التقنية في السرد ؟.
 
ربما كان التحرر من عنصري الزمان والمكان في الفرقة الموسيقية أكثر وضوحا لأن الرواية كانت تحمل هما عاما بصورة مباشرة كان يحتاج للرمز بصورة مكثفة لضمان ظهور العمل نفسه في ذلك الوقت ( أقصد بوضوح أمام الهمجية الوليدة للسلطة). وكان التحرر التام من عنصري الزمان والمكان لازما لاغراق بناء الرواية كلها في الرمزية. لاحقا في العصافير بقي عنصر الزمان خارج فضاء الرواية أو ارتبط بوقائع مثل ظهور الغرباء أو عودتهم في كل مرة، ربما لم تسهم تلك الوقائع في ابراز الزمان بقدر ما اسهمت في ازدياد غموضه. بينما ستبدو صورة المكان أكثر وضوحا من الفرقة الموسيقية. قبل ان ينهض الزمان والمكان من رماد الروايتين في الرواية الاخيرة فتصبح الصورة أكثر وضوحا. بيد أن البناء يظل في النهاية هو نفسه. فيكون عنصري الزمان والمكان الاضاءة التي تكشف تفاصيل العمل تدريجيا.
س (9) يان ياب دو راويتر أستاذ الدراسات العربية بجامعة تلبورخ (هولندا) في دراسته لروايتك " الخريف يأتي مع صفاء" ( التي ترجمها عن الهولندية دكتور الصاوي يوسف ) يقول : أن هذه الرواية هي أحد الكتب العربية القليلة التي استمتع بقراءتها اذ تصف سخرية السلطة والانحراف والفساد الذي يصاحبها (السلطة) ويشير إلى أن أرتباطك بقضايا وطنك إزداد وأنت في الغرب , كيف تنظر إلى كون الكتابة هي وطن الكاتب . وإلى تأثيرات الهجرة والغربة والإغتراب في الكتاب السودانيين من خلال تجربتك الشخصية ؟ وهل لكل ذلك علاقة بسؤال السلطة وتحولاتها بين العنف والثروة والمعرفة ؟
تجربتي الشخصية مع الغربة كما أشرت لذلك من قبل لم تكن مثمرة كثيرا في مجال مشروع الكتابة. انفصلت بخروجي عن ذلك الجو القديم من منابع الالهام اليومية. حقا انني استعضت عن ذلك بوهم امكانية اجترار الذاكرة لحد الاستنزاف لتوفير حد أدني من الشروط القديمة للمواصلة. كما شعرت أنه وبمرور بعض الزمن يمكن استعادة جزء من المبادرة، في ضوء المكسب الذي لا يستهان به: الحرية (رغم انه ايضا لا يمكن تجاهل قيود أخري تفرضها الغربة). ربما أيضا النظرة من علي البعد تكون أكثر عمقا من موقع حيادي. داخل الصورة تكون جزءا من التعقيدات الكثيرة من حولك فلا تري الكثير من التفاصيل المهمة. الان ربما أشعر أنني أقرب بصورة ما الي أن الكتابة هي وطن الكاتب، بعد خصم الوقت بدل الضائع من أجل استيعاب صدمة التغيير. لكن الناتج عموما يبقي أقل كثيرا مما أنتجت هناك.
س (10) لاحظ يان ياب أيضا أن هذه الرواية (الخريف يأتي مع صفاء) يشرب فيها الكثير من الكحول .. هل لذلك علاقة بالغياب أو التجلي أم أىّ دلالة هي ما ترمي إليها ؟.
أو ربما للشعور بالوحدة أو الحنين الذي نسعي للالتفاف من حوله. نحاول مقايضته بذكريات مبهمة أو نغرقه في النسيان. أو لمداراة ضعف الشخصية أو الذاكرة.
أحمد ضحية
مع خالص الود والشكر.
القاهرة 23 اكتوبر 2005
 
 
 
حواريه محتملة للقاص والروائي : احمد حمد الملك
 
موسى حامد
 
 
*1**تري متي احسست (بأكلان) الكتابةلاول وهلة واجبرك علي ان تمارس معه الحك لاول علي بياض الورق،السؤال ينطوي علي اكثر من بعد واحد؟؟؟
 
البدايات كالعادة كانت متعثرة، قصائد شعرية، خواطر، أذكر شارعا ضيقا محفوف من جانبيه بنبات العلق والحلفاء بمحاذاة نهر النيل في مدينة أرقو يسلكه الراغب في الذهاب الى المزارع. إرتبط لدي بذكرى غامضة وددت دائما في صباي أن تصبح شيئا على الورق. ثم كتبت من وحي ذلك قصة ضاعت مع الزمن كانت ملامح تلك الذكرى الغامضة المرتبطة بذاك الطريق تبدو في تلك القصة أكثر وضوحا.
 
2***عندك كانت البدايه الروايه ثم بعد كان ذلك كان الاتجاه للقصه علي عكس الروائيين الذين يبداوا بالقصه ثم الروايه من بعد مع العلم أن كل المشروعات القصصيه هي امتداد للروايه تري ما هو تعليقك علي ذلك؟؟؟
 
 نعم أول عمل قدمني الى القارئ كان رواية، رواية الفرقة الموسيقية التي صدرت عام 1991، لكنني من قبل ذلك كتبت القصة، في الفترة من منتصف الثمانينات وحتى نهايتها كتبت عدة قصص قصيرة نشر بعضها في الملاحق الثقافية في صحف الديمقراطية الثالثة. الفرقة الموسيقية نفسها بدأت كمشروع قصة قصيرة تصور شخصا يقود فرقة موسيقية تقاوم بانغامها المتمردة مشيئة المايسترو القادم من العدم مثل رسوم الكرتون. يصمد دون مبادئ حتى تتمزق ملابسه. وفي النهاية تتجه الفكرة لتصبح أكثر التصاقا بالواقع اليومي وأكثر تحررا من الأفق المحدود لوقائعها الصغيرة لتنطلق في مسار جديد تستعيد فيه زخم العالم.
 
3**السياسة، اللغة، المجتمع، الي الميتافيزيقا، ولكن ما يهمنا هنا: كيف يؤسس النص لصراعه مع السلطة عبر اللغة ؟ والسؤال مرة اخري ماهي آليات اله وكيف يكون منافحا عن النص لذلك والي اي مدي تراهن علي نجاحه ؟؟؟؟
 
ينطلق معظم كتّابنا من الهم الكلاسيكي : الحرية. ربما ذلك ما يجعل الموضوعات التي يعالجها كتابنا تتمايز الى حد ما من كتابات العالم الأول بهمومه المختلفة. حين هاجرت وأستعدت بعد سنوات بعض المقدرة على التواصل مع نفس الهموم السابقة لاحظ الكثيرون أنني أكتب بطريقة مغايرة قليلا وأنني أتحرر تدريجا من أسر الرمز، والحقيقة أن الرمز رغم عدم إنكار دوره كقيمة جمالية لكنه يبقى يكبل النصوص ويحجّم إنطلاقتها. تلك اللغة المغرقة في رمزيتها تبقى في النهاية في مواجهة السلطة التي تصادر ليس فقط الحريات بل كل بارقة أمل في أن يستعيد العالم عافيته ووجوده. لأن وجودها نفسه مضاد لكل قيم الخير.
في دراسة دكتور هاشم ميرغني عن روايتي عصافير آخر أيام الخريف، يتناول بالتحليل مناحي الرواية واسلوبيتها المغايرة في مواجهة عسف السلطة.
 
4*** لا حظت بصورة كبيرة الاهتمام العالي باللغة في الاحيان التي تصل حد الترميز في احايين كثير,بتكثيف الاحتفاء اللغوي لدرجة الانبهام والغموض أحيانااهل هو للحيلولة دون الدخول في بوابات اعتراكات المباشربه؟؟؟وتري هل التعامل مع الادب بهذه الصوره يخرجك من الوقوع في الاتهامات.؟؟؟؟
 
لربما أكون أجبت ضمنا عن هذا السؤال في إجابتي السابقة. الرمزية العالية حتمته كما تفضلت الرغبة في النشر نفسه. أمام حساسية السلطة المستبدة تجاه الكلمة.
..
5***في المقدمه التي كتبها الصاوي يوسف لروايه( الخريف يأتي مع صفاء) ، واصفا فيها المسيرة الادبية لاحمد حمد الملك. ذكر ان ارتباطك بقضايا وطنه ازداد وهو في الغرب هل اصبح هذا الارتباط ملهما في انتاج اعمال جديده أم كيف تبلور هذا الارتباط بالوطن؟
 
ربما يتجسد ذلك أكثر في أن الصدمة التي نجمت عن خروجي فجأة من الصورة التي إعتدت على العيش داخلها معتاشا في محاولاتي على رزق تعقيداتها وأحزانها التي لا تنتهى الا لتتناسل بمعادلة هندسية. أخرجتنا من أجواء الكتابة نفسها. وكان علي الانتظار لسنوات قبل أن أستعيد الشعور بالمكان القديم نفسه والهموم المتطوة نفسها. وإن كنت كما ذكرت استفدت من الحرية – وليس هامشها – في محاولة استعادة لغة أكثر مباشرة ووضوحا.
 
6**الواقعيه السحريه التي يشبهك الكثيرون فيها بغارسيا ماركيز ماذا عنها، لكن الثابت عندي تماما انه علي الرغم من تناصك وتقاطعاتك الكثيره مع ماركيز في الحكي الا أنك محتفظ بما يميزك .كيف حدث هذا الامر ؟
درجت دائما على القول ان ماركيز مدرسة لا تملك فيها الا أن تتعلم. وحين نجد أن العالم الذي إكتشفنا أخيرا أنه قرية صغيرة قد كان كذلك منذ الأزل تبدو الصورة أكثر وضوحا وشخوص العالم وأساطيره ووقائعه وعسكره أكثر تشابها حتى مما كنا نعتقد.
 
*7** كتب د. بشري الفاضل مقدم لواحد من اعمالك: (… هناك أعين كثيرة ترصد جملة من الاحداث في علاقاتها. انها طريقة غارسيا ماركيز، الانتقال المباغت من حدث لاخر، من المحسوس للمجرد المعنوي. ولكن أحمد الملك لم ينتحل ذلك من جارسيا، انها حساسية من هم في عمره، فهو شاب يبشر بنقلة نوعية لفن القصة في السودان).كيف تعلق علي هذا الكلام؟
 
د. بشرى إنسان مبدع إستطاع تقديم كتابات متميزة بجديتها وسخريتها في آن وإنحيازها للضعفاء دون إخلال بقيمتها الفنية العالية. وهو لا يبخل في تقديم الاجيال الجديدة والتواصل معها لأنه كاتب واع لدوره يؤمن بدور الكتابة وتطورها.
 
8**   يدور في الكثير من ردهات الادب المكانه العاليه التي يحتلها النقد والاهيه البالغه التي له ،تري كيف تعامل النقاد مع منجز احمد الملك الروائي والقصصي المتعدد؟؟؟؟
 
وجدت بعض كتاباتي إهتماما من جيل النقاد الشباب أمثال د. هاشم ميرغني وبكري جابر وعماد البليك وإبراهيم عابدين وأحمد ضحية، لكن في النهاية لا تستطيع أن تزعم عدم إهتمام النقد بكتاباتك في ظل صعوبة توصيل الكتاب نفسه الى قطاعات كثيرة من القراء وبالتالي حفز الاقلام الناقدة على تناولها. قبل سنوات طبعت مجموعة قصص قصيرة في سوريا ووعدني الناشر بتوزيعها في السودان ولم يفعل وكذلك روايتي الأخيرة. ثمة مصاعب كثيرة لا يستطيع حتى الناشر تذليلها، ربما وجد البعض في الانترنت حلا لكن هل يمكن مع ظروف الناس المعروفة ضمان الوصول عبر الانترنت للقطاع الأكبر من القراء؟روايتي الأخيرة الخريف يأتي مع صفاء كتب عنها ناقد هولندي وتناولها بالدراسة ناقد وأستاذ للأدب العربي في جامعة بروكسل قام بترجمتها لاحقا للفرنسية حيث صدرت قبل أشهر عن إحدى دور النشر الفرنسية.
 
*9**الكثيرون لازالو حتي هذه اللحظه غير مدينين للتجاريب الجديده المكثفه المتعدده والغنيه بالوجود والافاده،مصرين علي   النزول في محطه اسمها الطيب صالح؟؟؟
 
ثمة أقلام كثيرة تقدم إبداعا متطورا يستحق العناية به لكن تراجع الإهتمام بالكتاب وصعوبة النشر بالنسبة للكثير من الكتّاب الشباب وتعقيدات التوزيع ربما لا تجعل من المناسب الان إجراء تقييم متكامل لكل الكتابات الجديدة.
ليس مطلوبا في رأيي تجاوز محطة الطيب صالح إنه الرائد العظيم الذي تظل كتاباته مصدر إلهام للأجيال الجديدة ، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أنه يجب أن يظهر مهدي منتظر للرواية يجاوز تلك المحطة، هي عملية متواصلة تصب كلها في مجري وجدان هذه الأمة وتؤرخ لتطورها وإستيعابها لصدمات عالم لم تعد سماواته مغلقة على أوطانه. بدلا من الإنشغال بهم الخلافة يجدر الإهتمام بتطوير وتنمية المواهب ودفع العملية الإبداعية بتنمية وسائط النشروالمجلات الأدبية المتخصصة وأقسام النقد في كليات الآداب ودعم المراكز التي تسعى لتطوير أدب الكتّاب الجدد.
 
***10تجربة المنفي او الاغتراب في الكتابه علي انها مهيج للكتابه ..كيف تعاملت مع هذا المهيج،هل هو كما مشهور عنها أم كانت خصما علي اشياء كثيره ،خاصة انه مشهور عنك انك لم تكتب اي شيئ في اغترابك بل كل الذي كتبته لم يكتب الا في السودان .الي اي تعزو هذا الامر؟؟؟؟
 
بالفعل كما ذكرت لم أكتب شيئا طوال الفترة الأولى، سوى قيامي بإعادة كتابة روايتي الاخيرة التي كنت كتبتها في السودان عام 1997، لكنني في السنوات الأخيرة كتبت ونشرت عددا من القصص القصيرة اضافة لرواية قصيرة إسمها نورا ذات الضفائر نشرت قبل فترة عن دار عزة بالخرطوم. أعتقد أن الإنتقال الى بيئة جديدة ومجتمع جديد يحرم الكاتب من مصادر إلهامه التي إعتاد عليها.
 
***11الاجيال القديمه التي تنظر من علٍ للتجارب الشابه (انا هنا انظر الي غياب الي ما يمكن أن يسمي غياب المجايله)تري الي أي حد من الممكن أن يؤثر غياب هذه المجايله او كيف تعلق علي الامر ابتداءً؟
 
ربما غياب المؤسسات الثقافية الفاعلة مع تقديرنا لدور مراكز كثيرة نشأت في الفترة الماضية ولعبت أدورا مهمة في دفع حركة الأنشطة الثقافية ونشر الكتاب وتشجيع الأجيال الجديدة مثل مركز عبد الكريم ميرغني لكن مثل هذا العمل يحتاج لمؤسسات متعددة وذات إمكانات كبيرة أو لرعاية غير مباشرة من الدولة. كذلك ضعف وعدم إستقرار صدور المجلات الأدبية. كل هذه الاشياء تلعب الدور الأكبر في الربط بين أبناء الجيل الواحد وبين الأجيال الأخرى.
 
 
 
 
نورا ذات الضفائر مجتمع عرس الزين في ظرف مغاير
 
 
 
بشرى الفاضل
 
 
 
احمد الملك كاتب نشط وتحظى أعماله بالاهتمام والمتابعة داخل وخارج الوطن.صدرت له غيرالعمل الذي نحن بصدده هنا أربع روايات هي على التوالي: الفرقة الموسيقية ؛ عصافير آخر الخريف ؛ الموت السادس للعجوز منوفل ؛ الخريف يأتي مع صفاء .
 
في رواية (نورا ذات الضفائر)وهي رواية قصيرة مصحوبة بثمان قصص قصيرة صدرت حديثاً هذا العام( 2007 )عن دار عزة للنشر والتوزيع ينقلنا الكاتب لأجواء قرية سودانية محببة للنفس. وتسود أجواء الرواية ثيمة السفر الذي يعمل على خلخلة النسيج الاجتماعي لهذه القرية في نواحي (سوق السبت).وهو سفر وقدوم يرتبط هذه المرة ليس بدواعي الهجرة فقط بل فيما يخص الشباب بالتجنيد الإجباري للحرب الدائرة في جنوب الوطن الكبير. من الوهلة الأولى نلاحظ أنه تشبه أخيلة الرواية وحتى أسماء شخصياتها الرئيسية كتابات الطيب صالح خصوصاً في (عرس الزين) و(دومة ودحامد) و(ضو البيت) ويرجع السبب فيما يبدو ليس لتأثر أحمد الملك بالطيب صالح ولكن لتشابه البيئتين فودحامد المتخيلة غير المتعينة لكن التي تقع كما أفادنا الراوي عند منحنى النيل لاتبعد كثيراًً عن نواحي أرقو المتعينة التي تقع على النيل في شمال السودان بالقرب من دنقلا.ويترواح السفر في (نورا ذات الضفائر) بين أم درمان وبورتسودان وجنوب السودان والسعودية. اماالشخصيات التي زعمنا أن هناك تشابهاً بينها وبين شخصيات روايات الطيب صالح فهي هنا(الزين ودالحاج وسعيد سيد والطاهر ود إبراهيم . لكن هذا التشابه في الأسماء فحسب.ونجد أن الكاتب يكرر أسماء شخصيات ربما بما يقود على الإرباك فهناك الشيخ (النور ودحمدان)وهناك النور ودبابكر وهناك سليمان وسليمان:
 
(أمام دكان سليمان التاجر وجد العم حسين وسليمان الأعرج استقبلاه بالأحضان).
 
تبدأ الرواية بمشهد موت الشيخ النور ودحمدان وهو الذي ظل طوال سنوات يمثل للقرية سلطة دينية علاجية وفق ما قال الراوي.يذهب الشباب لحفر القبر بقيادة الطاهر ود إبراهيم وكان الزين ودالحاج أحد الذين طلب منهم الذهاب إلى المقابر للإشراف على الحفر . هناك سأل الزين سؤالاً وتلقى عنه رداً فيما نرى يبدو غريباً في مجتمع قروي محدود إذ سأل الزين:
 
إلا ورونا مين حيخلف الشيخ؟ -
 
وجاءه الرد:
 
والله يقولوا عندو ولداً طافش في بورسودان يمكن يجي يستلم في مكان أبوه إلا الناس خايفين.
 
ففي قرية يعرف فيها الناس أسماء الكل حتى المواليد الجدد لا يمكن أن يتساءل احد عن اسم ولد شيخهم وهو شاب سواء أكان في سفر أو خلافه. وهذا المشهد - مشهد الدفن- لم تنقلنا منه الرواية إذ استمر الحوار بين مختلف الشباب والشيوخ طوال الرواية دون ما يشير إلى انتقالهم من منطقة المقابر على الرغم من الجملة التي نطق بها الطاهر ود إبراهيم :
 
يا اخوانا سيبوا الكلام .الجماعة ديل جايين.
 
يقصد حملة الجثمان.إذ بعدها مباشرة نقرأ:
 
أمام دكان العم سليمان كان فارس المجنون جالساً) )
 
ودكان سليمان كان فيما بعد هو المحطة الرئيسية التي تتجمع فيها شخصيات الرواية الرئيسية يتآنسون حول مايجري لقريتهم تماماً كدكان سعيد في روايات الطيب صالح.
 
وتدخل النكات الشائعة في نسيج الرواية:يحكي الطاهر ود إبراهيم حكايته مع فارس :
 
لقيتوا ليك متكيف من صوت ماكينة البص . قال لي والله عاملين ليهم كوز تمام! قلت ليهو وين في كوز تمام؟ ضحك وقال لي في كوزين بس تمام، كوز السبيل وكوز العربية!).
 
الأخيلة التي رسم بها الكاتب لقاءات نور الدين ونورا ذات الضفائر عند الأصيل في مكان المرعى حيث تظللهما العصافير أو حين مرت فرقة موسيقية تعزف نفس أنغام العصافير أو حين جاء بعض سكان القرى المجاورة ليشهدوا هذا الحب البديع الذي جمد شمس الأصيل فلم تغرب في أوانها هي أخيلة ماركيزية لكنها وجدت لها مكاناً في هذه القرية المتسامحة تجاه الحب وتجاه شرب الخمر مع القمشة. .(نواصل)
 
     
 
 
 
 
 
تضاريس
 
 
 
في رواية (نورا ذات الضفائر): شيوخ وشباب معادون للمرأة
 
 
 
بشرى الفاضل
 
 
 
أطلق نور الدين تلميذ الثانوية الذي أحب نديدته نورا عليها لقب نورا ذات الضفائر حين كانا يظهران معاً في أصائل اشتهرت في القرية والقرى المجاورة ، حيث كانت تظللهما العصافير، فالأخيلة التي رسم بها الكاتب لقاءات نور الدين ونورا عند الأصيل في مكان المرعى حيث تظللهما العصافير أو حين مرت فرقة موسيقية تعزف نفس أنغام العصافير أو حين جاء بعض سكان القرى المجاورة ليشهدوا هذا الحب البديع الذي جمد شمس الأصيل فلم تغرب في أوانها هي أخيلة تشبه ما يرسم به غابريل غارثيا ماركيز شخصياته فيما وصف بالواقعية السحرية. لكنها وجدت لها مكاناً في هذه القرية المتسامحة تجاه الحب وتجاه شرب الخمر مع القمشة. القرية التي تقع في (لا بحري. جيهة سوق السبت ) كما وصفها فارس احدى شخصيات الرواية لشخص سأله عنها تقع كما أخبرنا الراوي على بعد عشرة كيلومترات من أرقو. متسامحة نعم تجاه القوارير لكن لا يدخل في تعريفنا للقوارير هنا المرأة فهذه القرية معادية لها ونسوق من الشواهد ما يلي:
 
 
 
ضحك فارس وقال: قالوا النسوان يخافن منك عشان إنت (مسلح)… يسوق الكاتب على لسان فارس مشهد نساء القرية وهن يدخلن ويخرجن على سليمان عندما لدغته عقرب وذكر فارس ان شيخ الصاوي قال:
 
 
 
لو ما المصيبة دة نزل النسوان ديل ما بيقعدن في الواطة.
 
 
 
وفي موضع آخر قال فارس: (ما شفت الزين ود الحاج مرة عرس ليه مرة بشيك. وبعد العقد مشوا أهل العروس يصرفوا الشيك لقوا ما عندو رصيد).
 
 
 
سليمان الأعرج ، رمز للتهتك في الرواية وكما شهدناه يحكي عن الزين صهره المرتقب ببساطة كما في الفقرة أعلاه، فها نحن نشهده في جلسة واحدة يوافق على التغيير من بنت الزين الصغيرة إلى الكبيرة بعد أن ذهب قبل ذلك بفترة قصيرة ليخطب نورا ذات الضفائر علماً بأنه كان يضرب زوجته الأولى التي طلقها. ومن عجب أن الزين ود الحاج يتكلم عن بنتيه في تلك الجلسة أمام دكان عم سليمان بمجانية يقول الزين ود الحاج موجهاً كلامه لفارس:
 
 
 
تعال عرس الكبيرة بنديها ليك مهاودة شوية! (علامات التعجب ليست من عندنا).
 
 
 
ضحك فارس وقال:
 
 
 
باخدها بسعر التكلفة. وهي طبعاً ما كلفتك أي حاجة مدرسة ما دخلتها أها نقرأ الفاتحة ياخوانا؟
 
 
 
يخدع فارس (شيرا الفضل) بائعة الخمور البلدية في القرية وينهب أموالها وتحكي شيرا قصة فارس المشينة المتمثلة في سرقته المستمرة لها للزين ود الحاج الذي جاء بدوره ليشتري حصته من الخمور:
 
 
 
كان الزين ود الحاج ينتفض من الضحك وهو راقد أرضاً حين اهتاجت شيرا.
 
 
 
إنت جنيت يا راجل يا شايب يا عايب وتضحك على خيبتك وكمان داير تدخلو بيتك؟ يلا خم وصر.
 
 
 
عندما رفضت نورا سليمان الأعرج قال عنها في أنس مبتذل مع فارس:
 
 
 
والله صحي الشافعة ناشفة الحمد لله الأبت. المرة وكت تجي ماشة في الحوش لو البيت ما اتهز ما تبقى مرة.
 
 
 
ونفس سليمان هذا يواصل جسه للنساء كأنهن سوائم:
 
 
 
-إتذكرت السرة بت عمي عبدالمجيد. زمان قبل ما يعرسوها كانت ضعيفة، أمها كانت مسمياها عشة القشة. أيام الهبايب والزعابيب ممنوع تمرق من البيت خايفين الهوا يشيلها. مرة قاعد أهزر معاها قلت ليها انا داير أعرس صفية بت حاج النور. كانت بت سمحة جا خطفها مني ود عمك نورين المغترب. السرة كانت بتحب تهزر معاي قالت لي: ما تغطي قدحك!
 
 
 
دايراني أعرسها عاينت لي جسمها المسلوع. أحرف جزار ما يمرق منها نص كيلو. قلت ليها وينو القدح ذاتو عشان نغطيهو.
 
 
 
وهكذا كشفت شخصية سليمان الأعرج النظرة إلى المرأة باعتبارها انثى حيوان ملحم.
 
 
 
تنحنح فارس وبصق «سفة السعوط» من فمه ووضع سفة جديدة ثم خبط كفيه ببعضهما وقال موجهاً كلامه للزين ود الحاج:
 
 
 
ما تديني البت (السغيرة)!
 
 
 
(في الحلقة المقبلة نتحدث عن لغة هذه الرواية).
 
 
 
 
 
 
 
تضاريس 65
 
 
 
اللغة في رواية نورا ذات الضفائر
 
 
 
بشرى الفاضل
 
 
 
قبل الشروع في حلقة اليوم أحب أن أصحح معلومة من الحلقة السابقة إذ ذكرت أن شخصية سليمان الأعرج هي رمز التهتك في رواية نورا ذات الضفائر والصحيح شخصية فارس والعلاقة المشار اليها مع الزين الصهر المرتقب المقصود لها أن
 
 
 
تكو ن مع فارس أيضاً لا سليمان الأعرج. وإلى الحلقة الجديدة:
 
 
 
بنى الكاتب روايته بالإكثار من لغة الحوار فما ان تنتهي شخصية من سرد حدث أو واقعة أو طرفة حتى تستلم زمام السرد شخصية أخرى. ومن الجوانب التي وفق فيها الكاتب استهلال السرد الذي يسبق الحوار مباشرة بوصف لوضعية أو حركة الشخصية وهي تهم بالجلوس أو القيام: )غطى الزين وجهه وابتعد قليلاً من التراب المتصاعد من القبر( ص10قال النور ود بابكر وهو يضع حجارة الطين الضخمة التي تستخدم في تثبيت القبر (ص11 قال الطاهر ودإبراهيم وهو ينفض التراب من عمامتهل(ص11ضحك الزين حتى جلس على الارضن(ص11قال الزين ودالحاج وهو ينفض التراب من جلبابها(ص13قال الطاهر وهو يرخي جسده في الرمالم(ص22 )قال سليمان الأعرج وهو يرخي جسمه فوق الرمال(ص31 س)ورفع عمك حسن نصف جسده من الأرض وقال(ص.42 واحياناً يجيء استهلال السرد بوصف نفسي: ) قال سليمان من قاع لامبالاته(ص32،)جلست بجانبه بعفوية حين جاء صوت نور الدين من قاع لاوعيه( ص39،
 
 
 
تحدثت عن الإرتباك في الشخصيات ويمكن أن اشير إلى شخصيات)عمك سليمان حاج على الذي زوج ابنته لشيخ الصاوي كما ورد في الرواية قبل سنوات، فهل هو نفس سليمان ودحاج على الأعرج الذي اراد أن يخطب نورا هذا إذا علمنا أن هناك عمك سليمان صاحب الدكان الذي تجتمع فيه الشلة فضلاً عن سليمان ودعاشة الذي اورد سيرته فارس مثل هذا الإرباك في الشخصيات تاثرت به لغة السرد في نظرنا سلبياً.
 
 
 
ثمة أجزاء من لغة الراوي كتبت بإهمال إذ قال الراوي :)تحكي نورا ذات الضفائر حكايات زمان آخر تصف فيه صورة والدها الذي لا تذكر شيئاً عن تفاصيل صورته ، سوى صورة غائمة لرجل يرتدي زياً عسكريا ويلوح لها بقبعته الذهبية ذات صباح غابر…(.وتبدو لغة شخصيات الرواية احياناً غير متسقة مع وضع هذه الشخصيات الإجتماعي فالزين ود على في مفتتح الرواية يحكي عن صديقه الميت و يقول:)والله رقد رقدة ! عليك امان الله يكون في الساعة دي مزنوق زنقة كلب في طاحونة الجماعة حيسألوه ليك العرقي الشربو، ويوم مشى معاي الإنداية والبنت المشينا ضاجعناها، يمين يكون هاري هرار!(.حيث استعمل الراوي كلمتين هنا من خارج سياق لغة الشخصية القروية المذكورة.
 
 
 
ثيمة الرواية الرئيسية هي ما تتعرض له قرية في نواحي ) ارقو( من متغيرات فمعظم شخصيات الرواية تشكو من مضايقات ممثلي الحكومة في الناحية وصوت هؤلاء الممثلين مغيب إلا ان افعالهم حاضرة وجهيرة الخطف من الاسواق وتجريدات العوائد والضرائب ومطاردة الشباب حتى داخل حقول )المريق ( للتجنيد و السعي لتجنيد شباب القرية يعكس جانباً آخر من الثيمة فالحرب في الجنوب تصل حتى إلى هذه القرى النائية في الشمال وتنفعل بها وتقدم لها قرابينها في شخص نورالدين في هذه الرواية الذي لم تشفع له سنوات عمره الغضةالشيء الذي تسبب في موت نورا الفاجع..وفي نظرنا ان الكاتب تعرض إلى هذه القضايا العامة بلغة تجنح إلى المباشرة واستخدم القفشات الشائعة مما تعرضنا له في الحلقة الاولى حول هذه الرواية.
 
 
 
وتكررت في الرواية اكليشيهات مثل )زنقة كلب في طاحونة( و)دقاه دق الرخصة( في أكثر من موضع.وفي الرواية هنات لا نلوم عليها الكاتب ومنها )لينا زمان ما ذيك شغالين بالفارغة(ص 16، و )غايتو إلا نشوف ليك عذبة( ص32، و ) مشينا بيت العذابة في الحلة الجديدة( ص33 . إذ لا يخفى ضرورة وضع الزاي موضع الذال.ونقول إننا لا نلوم الكاتب فيها إذ ان التصحيح من مهمات الناشر .
 
 
 
كتب الكاتب احمد الملك في إهدائه لي الكتاب يقول ) رواية نورا ذات الضفائر كانت تتكون من عدة مشاهد وأصبحت بفضل إجتهاد الناشر واقتصاده مشهداً واحداً( .
 
 
 
وفي رايي ان تعود الرواية في طبعتها الثانية كما أراد لها كاتبها اي من عدة مشاهد فمثل هذا التدخل في نظرنا في بنية الرواية هو تدخل لا تقتضيه ضرورات النشر بحال.وبعد هي رواية أمتعتني رغم محاولتي إعمال المبضع فيها بقسوة وهي قسوة اتعامل فيها مع اعمالي ايضاً و هذه الرواية تصحبها قصص قصيرة بديعة لكن مثل هذه العجالة لا تسمح بتناول اي منها.ونامل ان يستمر الكاتب المبدع احمد الملك على هذا المنوال الذي يسير عليه فهو قد تغلب على إشكالية أقلال الكتاب الروائيين والكتاب السودانيين من كل بد.
 
نقلا عن صحيفة الرأي العام
 
 
 
 
 
حوار مع شذى مصطفي ( جريدة الشرق الأوسط)
 
 
أحمد الملك من الأدباء السودانيين المهاجرين، يقيم في هولندا منذ أكثر من عشر سنوات، صدرت له عدة روايات ومجموعات قصصية. فازت روايته «المشير يبحث عن بيته في شارع الأرامل» بجائزة «صورة العالم» التي تختص بأدب المهاجرين وينظمها مركز الفنون بمدينة «خرونجن» بهولندا، ترجمت أعماله إلى الهولندية والفرنسية ولغات أوروبية أخرى. يعيش أحمد الملك في الغرب إلا أن كتاباته تتميز بأنها خالية من رائحة هذا الغرب أو قصص الهجرة أو صراع الثقافات كما هي حال معظم الأدباء السودانيين المهاجرين كجمال محجوب وليلى أبو العلا وطارق الطيب. روائي لا تزال أعماله تتمحور حول القرية التي نشأ فيها في السودان وأناسها وأحلامهم البسيطة، يغرف من معين الذكريات الذي لا ينضب، يصوغها بأسلوب ساخر وجذاب. «الشرق الأوسط» حادثت الروائي أحمد الملك وكان هذا الحوار:
 
كيف كانت البدايات، ومن أثر فيك من الكتّاب؟
 
في النصف الثاني من الثمانينات نشرت بعض محاولاتي الشعرية والقصصية في ملاحق ثقافية كانت تصدر في العهد الديمقراطي، وأواخر عام 1991 نشرت رواية «الفرقة الموسيقية»، وجاءت تعبيراً عن الصدمة من الغياب السريع للديمقراطية التي تفتح وعينا عليها. كنت آنذاك - وما زلت - مفتونا بالأدب الروسي وكذلك كتابات شينوا إشيبي والطيب صالح وعبد الرحمن منيف وفرانز كافكا وماركيز وأدب أميركا اللاتينية عامة.
 
في مؤتمر أدبي هولندي طلب منك كتابة رواية عن اندماج المهاجرين وأجبت بما يعني استحالة ذلك، ألا ترى هذا تخاذلاً، خاصة أن هولندا يعاني مهاجروها من صعوبات كثيرة، وشهدت حوادث مأساوية؟
 
أي ناشر أو مهتم بالأدب يبادر حين تبدأ في استعراض «بضاعتك» الأدبية التي ينتمي معظمها الى القرن الماضي، وكلها موسومة برائحة الطين والارض والناس البسطاء الذين نشأت بينهم، يسأل الناشر: هل كتبت شيئاً عن هنا؟ انهم يتشوقون لمعرفة رأيك في حياتهم، كيف تنظر وأنت القادم من بيئة مختلفة الى تفاصيل الحياة في مجتمعاتهم. يشعر الناشر بخيبة أمل حين تقول له، إنك لم تكتب عن إقامتك هنا شيئاً بعد وأنك لا تزال تجتر ذاكرتك لتعتاش على رزق ضئيل من صور شخصيات أحببتها، وكان عالمك ينتهي عند حدود أحلامها. تحاول أن تشرح له أن الخروج من الصورة التي اعتدت العيش فيها طوال سنوات، وصرت جزءاً منها، ممكن، لكنه لن يكون كاملاً بالطبع. ما سيحدث أنك سترى نفس الاشياء عن بعد، ستفقد بعض رباطك الوجداني معها، لكن نظرتك اليها من بعيد ستعطيك صفة أقرب للحياد وتظهر تفاصيل غامضة لم تكن لتراها وأنت جزء من تلك الصورة. ستنظر الى العالم الجديد من حولك، تسأل في البداية: من هؤلاء، لماذا أنا موجود خارج الزمان والمكان الذي أعرف؟ ثم تستعيد تدريجاً وعيك بعالم جديد من حولك، لكي تستمر الحياة، وتنظر إليه بمنظار العالم الذي تعرفه، وتلك هي المشكلة! والنتيجة: لا عنب الشام ولا بلح اليمن.. كما يقولون.
 
هل تتعمد وصف تقاليد قروية عن الشياطين والزار لجذب القارئ الأجنبي الذي تستهويه هذه الغرائب الغامضة لمجتمعات بعيدة عنه؟
 
قطعاً حين أقول إنني ما زلت استهدي في معظم ما اكتب بنفس الصورة القديمة التي كنت جزءاً منها، والاساطير الشعبية وطرق المعالجة المحلية والتداخل ما بين الواقع والاسطورة بحيث يصعب دوماً تمييز الخيط الرفيع بينهما، كل ذلك هو جزء من تلك الصورة. القارئ الأجنبي تستهويه معرفة عادات الشعوب الاخرى بصورة عامة. الكاتب الايراني المعروف جداً هنا في هولندا قادر عبد الله والذي أصدر مؤخرا ترجمة للقرآن الكريم باللغة الهولندية، وجدتْ كتاباته رواجاً في بداياتها، بسبب تعريفه للقارئ الهولندي ببعض عادات وتراث مجتمعه القديم.
 
أعدت كتابة إحدى رواياتك بعد خروجك من السودان رغم أنها كانت مكتملة، هل الغربة تجدد رؤيتك للأشياء؟
 
الحقيقة أنني لم أعد كتابة تلك الرواية بسبب تأثير الغربة، بل تحت تأثير الكتابات النقدية وآراء القراء التي وصلتني بعد نشر روايتي الثانية «عصافير آخر أيام الخريف». لاحظ معظم القراء ان قراءة تلك الرواية كان عملاً شاقاً يحتاج لمتابعة وتركيز. شخصيات كثيرة تتحرك في فضاء الرواية، بعضها يختفي ثم يعود ليصب مزيداً من الزيت على نار مسرح للأحداث أقرب للعبثي. شخصيات تنسلّ من باب الذاكرة لتعود من شبّاك وقائع تطفو على سطح العالم فجأة دون إنذار: فوضى كاملة! فهمت من تعليقات القراء وبعض النقاد أنه ربما مع تعقيدات الحياة وتسارع إيقاعها لم يعد الوقت مناسباً لسوريالية الحكي، وان الاسلوب البسيط المباشر أنفع للفكرة ووقت القارئ.
 
>كيف يختلف النقد العربي عن النقد الغربي؟
 
ما قد يميز حركة النقد هنا ويجعلها مواكبة للإنتاج الأدبي والفكري هو وجود مؤسسات من جامعات ومنظمات تهتم بالأعمال الأدبية وتقدمها، والحقيقة أن الكتابة والنقد يتوازيان في تطورهما. ولا بد بالتالي أن تنعكس عملية الاهتمام بالكتابة والانتاج الفكري بصورة عامة على حركة النقد. من تجربتي الصغيرة من خلال كتابات ناقدين هولنديين عن رواية «الخريف يأتي مع صفاء»، لاحظت أنهما يركزان جلّ الجهد على فكرة الكتاب. هل بذل الكاتب جهداً لتوصيلها ومدى نجاحه في ذلك، ثم القيم الجمالية في العمل واستلهام التراث أو الثقافات المحلية باعتبار ذلك جزءا من تكنيك الكاتب لجذب انتباه القارئ ليعيش أجواء ثقافة أخرى. أما المؤثرات أو المنابع التي تختبئ وراء اللغة أو الحكاية فيشار لها دون ان تأخذ دوراً كبيراً في التقييم، بينما تجد حظاً أوفر - كما لاحظت - لدى نقادنا.
 
تتحدث عن قيود عليك ككاتب يفرضها المجتمع الجديد (الغربي)، فما هي هذه القيود رغم الحرية الفضفاضة في المجتمع الغربي؟
 
كنت أشير الى أنه في مقابل الحرية، كقيمة مهمة وأساسية للكاتب يفرض عليك المجتمع الرأسمالي أن تنخرط فيه على الاقل بالحد الذي يكفي لبقائك على قيد الحياة. بمعنى أنك ستظل دائما منشغلاً بالعمل او الدراسة ما قد يشغلك إلى حد ما عن الكتابة، رغم وجود برامج ومنظمات تساعد الكتّاب والفنانين بصورة عامة على نوع من التفرغ للكتابة كحرفة.
 
ما مدى الترحيب بالأدب العربي في الغرب، وهولندا على وجه الخصوص، ومن هم الأدباء العرب الذين يلقون رواجاً؟
 
قبل سنوات تحدثت مع ناشر هولندي وسألته نفس السؤال، أوضح لي ان الأدب العربي بصورة عامة لا يجد رواجاً كبيراً في هولندا. لاحظت خاصة في سنوات ما بعد أحداث 11 سبتمبر اهتماماً بالدراسات التي تتناول الثقافة الاسلامية بصورة عامة، وإن كان حظ القراءة بصفة عامة -حسب الناشر الهولندي - أفضل بالنسبة للكتابات الاوروبية خاصة الرواية الحديثة وكتابات أميركا اللاتينية.
 
كيف كان فوز قصتك «المشير يبحث عن بيته في شارع الأرامل» بالجائزة الأولى في مهرجان صورة العالم؟
 
فوزي بتلك المسابقة كان في بدايات وجودي في هولندا ولم أكن بعد قد كونت فكرة كاملة عن عالم الأدب هنا. كانت تلك خطوة أتاحتها مناسبة أدبية بادرت بها بعض المؤسسات الهولندية مع أحد الناشرين وقام بالتنسيق فيها الشاعر والكاتب العراقي موفق السوّاد، وقد شارك فيها عدد من الكتاب المهاجرين من عدة دول. هذا المهرجان الأدبي كان مقتصراً على كتابات المهاجرين والغرض منه تشجيع التعارف الثقافي لأن المجتمع الهولندي يعاني من مشكلة عدم وجود تواصل بين المهاجرين المقيمين على ارضه. وكان هناك عدد من المشاركين من دول أفريقية وعربية وآسيوية وأميركا الجنوبية، خاصة تلك الدول ذات الارتباط مع الثقافة الهولندية مثل سورينام وجزر الانتيل. بالنسبة للدول العربية، للمغاربة وجود مهم وعدد مقدر من المؤسسات الثقافية ولديهم كتّاب شباب يحققون نجاحات كبيرة في الكتابة، كما ان للعراقيين نتاجهم المتميز.
 
 
عصافير آخر أيام الخريف
 
بقلم الروائي والناقد : أحمد ضحية
 
 
 
اشرنا في الحلقة الماضية (الحلقة الثالثة من هذا المقال) إلى أن الزمن الروائي ,الذي تتحرك فيه البنى الحكائية , في رواية احمد حمد الملك (عصافير آخر أيام الخريف ) محدد بين (58- 1968) ..
 
نضيف في هذه الحلقة ,حول المكان انه خلافا للزمان غير محدد الملامح , ينسجم والمناخ النفسي للغرباء الذين تعج بهم الرواية , فهو قرية (خلف تخوم الصحراء بمحاذاة نهر النيل ص19من الرواية) .. فهؤلاء الغرباء مثل أولئك (المخاطر ون من دول العالم الثالث (..) فكانوا جميعهم غرباء لا منتمين .. محاصرين بالوحدة والعزلة , فلا هم ينتمون لمجتمعاتهم , ولا ينتمون لهذا المجتمع الذي دخلوا فيه (..) هذا الإطار الإنساني ..قدرهم الذي أعطى تفاصيل حياتهم هنا طابعا مأساويا ص : من رواية صباح الخير أيها الوجه اللامرئي الجميل لعيسى الحلو ..)!..
 
نلاحظ أيضا اهتمام الروائي باللغة إلى درجة كبيرة جدا ,بتكثيف الاحتفاء اللغوي لدرجة الانبهام والغموض أحيانا .الأمر الذي لا نجده إلا في بعض الأشعار الرمزية , الاسيانة الحالمة ..
 
كذلك اعتمدت اللغة في عصافير أخر أيام الخريف ,أيضا – على تركيب العبارة من معان متناقضة (الآلة كانت تعزف وحدها , لأنها مبراة من عيب القلب ص 152)(تستقبلها بنفس حماسها الغابرص134). ولان الأسلوب أسطوري فانتازي , مفعم بالحزن والدفء والحنين والفجيعة في آن . يجعل من العسير أن نلاحظ بدء هذه القضية, التي تنسحب على البناء النفسي للشخصيات !..
 
وإذا عدنا للراوي , نجده يتحرك عبر إحداثيات النص ,بما يمثل في مستواه الجمعي (الضمير /التاريخ – مك الدار) (لقد اكتشفنا منذ اللحظة الأولى, عندما بدا الوقت مناسبا لمراجعة ملابسات وجوده الغريب(..) صعوبة إعادة رسم صورة ذلك الغريب ,في ذاكرة معاصريه ص 70 من الرواية) ..
 
صوت التاريخ , صوت الناس .. المكان, أكثر من أي شيء أخر , وتشظي صوت الراوي هو بحد ذاته من الاستخدامات الجديدة التي تميز هذه الرواية (عصافير …)وان تبدى السرد غر ائبيا في حكاياه المدهشة , المنسجمة مع النظام الصوفي والذاكرة الشعبية في أكثر تفاصيلها سرية وحصارا )عودة الميت)(طي الأرض) .
 
كذلك تحمل (عصافير أخر أيام الخريف) شيئا من ملامح الرواية الباطنية ,و كما عند اليخو كاربنتييه في (مملكة هذا العالم )كمثال .
 
إذ تتمركز الفكرة في عصافير .. حول الهجرة والاغتراب الدائمين (الغريب)باعتباره – المفهوم- يمثل احد الأفكار المركزية للنص , وتلك العقيدة الأفريقية الاحيائية, التي تعتقد بان ثمة روح في كل شيء حتى الجماد , وهو ما ناقشه وحلله إبراهيم الكوني في (نزيف الحجر) وفي هذا السياق يبرز الحنين والحزن ,مختلطا بفوضى الذكريات (التاريخ) غير المؤكدة المصادر أو الحدوث , لتعدد الرواة والأسفار .. نتجت – هكذا الفوضى – عن مزج البيئات الاجتماعية والنفسية والثقافية , باختلافاتها من سفر لآخر ومن وقت لآخر . بما يدفع لافتراض تاريخ آخر بعيدا عن سلطات هذه المصادر المشكوك فيها , والتي يبدو الغريب خلالها ,ليس مجرد غريب في حقل من حقول المجال الثقافي والجغرافي المتعدد والمتباين في مكوناته . بل يتجاوز إلى صورة الآخر غير واضحة المعالم , الآخر اللامنتمي ..
 
ففي موسم الهجرة إلى الشمال نجد مصطفى سعيد غريب في لندن , وكذلك كان غريبا عندما اعتزل وعاد إلى قرية غريبة عنه .
 
وهؤلاء الغرباء في عصافير آخر أيام الخريف , كذلك لا يقلون غربة عن مستر سعيد , أو عن غريب (البير كامي) . فإذا كان الآخر في موسم الهجرة ,هو العدو المستعمر الذي ينبغي الثأر منه , وفي (جابر الطوربيد لمحمود مدني) هو الغازي الذي ينبغي طرده . فالغريب في (عصافير أخر أيام الخريف )غريب من نوع آخر .. محض لا منتمي لا للجغرافيا أو التاريخ وهو غريب جمعي قبل كل شيء وليس مفردا , ومع ذلك ليس سلبيا كسليمان عثمان في( صباح الخير أيها الوجه..), بل واقرب إلى ياسر ابن سليمان .. ياسر الذي عبر بعبير الفاصل إلى حياتهما بين قبرين( قبرعائشة مرسال وسليمان عثمان) ,
 
هذا الغريب الجمعي(في عصافير أيام الخريف) لم يتمكن من اكتشاف ذاته أبدا إلا في الخواتيم.. أخيرا تكتشف فاطمة نور الصباح حقيقتها التي هربت منها طويلا( مثل سليمان في أيها الوجه ) اكتشفت أن الرائحة التي استعادت للمرة الأولى ,مقدرتها على انتزاع الذكريات المدفونة في غضون ذاكرتها ,تحت الغبار السري لرائحة نوار الليمون في تلك اللحظة , وحينما سحبت الغطاء (لتكشف عن الوجه الصديء بعرق الموت , تداعت في ذاكرتها مأساة اغتصابها وحيدة في ليل نوار الليمون المشحون بضوء قمر لطيف ومتواطيء في أخر أيام أمشير. من قبل غريب امتلك خاصية التخفي في ثنايا الثغرات الصغيرة في الواقع اليومي , الذي استحدثه وجوده المأساوي غير المتوقع والمفروض ص :256)
 
وبصرف النظر عن التوظيف الأيديولوجي لمفردة غريب, أو محتواها المعرفي, نلاحظ أيضا تقاطع رموز النص وإشاراته ودلالاته ,مع رموز وإشارات ودلالات حملها جابر الطوربيد مثل العصافير والجراد والشجرة والعالم الفانتازي مجملا , والذي لا يخلو من مناخات طبقات ود ضيف الله , التي يتبدى عنها الحديث الروائي, كإحالة أو مرجعا في الواقع لأكثر عصورنا الوطنية (عرفانا وباطنية) الفترة السنارية .
 
ومع ذلك يتصاعد عدد الضحايا بشكل يفوق ضحايا ( جورج امادو) في رواياته . ولكن هنا في العصافير لأجل إحداث توازن وتماسك للشخصيات الأساسية , وليس لأجل الخروج من ورطة تطوير الشخصية ..
 
فالأبطال في العصافير , مثل مصطفى سعيد , يستمدون وجودهم وبقاءهم من موت الآخرين أو من الضحايا , فكل من يتزوج فاطمة نور الصباح , حتى الطبيعة تموت لدى مرورها , كأنها مرصودة ومنذورة للموت .
 
من جهة أخرى يموت كل أولاد سيد البيت لكبير, حتى الذي يبادل مبروكة الحب , حتى سليمان التاجر (كانت عرافة قد تنبأت له في مطلع أيام شبابه , بان موته في ليلة قائظة و مشحونة بترانيم الموتى ,سيكون وشيكا .عند موت نخلة كانت قائمة وسط جنينة النخيل الملحقة ببيته ص :27 من الرواية )وهي نبوءة مماثلة لنبوءات الموت في هذه الرواية ..
 
والطاهر ود الزين بعد أن ينجح في إنقاذ حبيبته سميرة نور الدين من براثن الأمير المسحور تموت (ترهقه محاولات إجبار الأشياء من حوله على الاعتراف بموتها , تنتابه فجأة نوبة خرافية من الحزن, فيجلس أرضا دافنا وجهه في بكاء مرير ,ويستمر نواحه ص 239)..
 
ويظل فعل الموت محاصرا كل شيء , فحتى عندما تعود سميرة للحياة ,على نحو ميتافيزيقي مثل عودة جابر الطوربيد , لا يعترف الطاهر (حبيبها) إنها حية (وللوهلة الأولى , شعرنا بحقد تجاه الموت , لأنه افلت من براثنه هذه الأسطورة, ليكوي قلوبنا بعذاب جمالها ص :241) فالطاهر ود الزين ,الذي قطع الفيافي والوهاد لأجل إنقاذها من براثن الغول , ينشغل بتكريس موتها ,والبحث الأسطوري( مثل بحث الجنرال اورليانو بينديا في مائة عام من العزلة ), عن أسرار تلك اللعنة , فلم يجدها بعد كل هذا العناء في البحث سوى (بضعة جنيهات معدنية من عملة ماريا تريز , وعلبة صغيرة من الصفيح بها بقايا بودرة متحللة وأوراق صفراء جافة , قرأ فيها بحروف إنجليزية : الاسم ريتشارد فون كوتكس ص 242) ..
 
وهكذا لا يجد سوى التاريخ الذي دونه الأجانب ..
 
وعندما تفشل سميرة بانتزاع اعترافه بأنها لا تزال حية , يحاول قتلها بفأس فتهرب من ذاكرة القرية التي نهشتها الأرضة , ولا جدوى من الانتظار ..
 
ويظل المغتصب المجهول كما تتبدى عنه رؤيا النص, لا للدلالة على العسف والموت بل مزدوجا للدلالة على الخصب والحياة أيضا.. عكس توظيف الاغتصاب في جابر الطوربيد , إذ بينما يأتي اغتصاب نقية بنت تاج الدين هناك في الطوربيد من قبل الغزاة مأساويا ,إذ يحولها الاغتصاب إلى أشلاء منتهكة ويقتلها بعد أن ينهبها .. يأتي الاغتصاب في العصافير فعل قهر لكن في إطار المراوحة بين الموت الحياة والخصب .
 
من جهة أخرى فان ما تسمعه فاطمة نور الصباح ,في السوق من أحاديث النسوة , هو شبيه بالذي يدور في جلسات بنت مجذوب وود الريس في موسم الهجرة …
 
كما أن هاجس شير في إنتاج ذلك اللحن السحري الآسر (نجح باستخدام سبعة مزامير في عزف لحن ربابة أم كيكي المنسي, الذي روج لأسطورة أجمل فتاة خلف تخوم الصحراء ص :114) يتناص هذا الهاجس مع هاجس البحث ,عند حفيد الجنرال بينديا عن سر الأسرة , الذي يكتشفه في النهاية فيما يشبه الاوديبية ..
 
فالأمر لم يكن سرا , فهو محض لعنة تناقلتها أجيال الأسرة عبر تاريخها الطويل في زواج محرم بين فتى وفتاة من الأسرة ينتج طفلا له ذيل - راجع :مائة عام من العزلة(..) هذه البنية الحكائية الصغير تعيد إلى الأذهان أطفال الغريب, الخضر ذوي البشرة الشوكية .. هذه اللعنة التي تتحقق في الحفيد المهجس بالبحث , فقد تزوج من خالته دون أن يدري إنها خالته( : راجع مائة عام من ..) وهكذا يكتشف أن هذه اللعنة التي ظلت أسرته تحكيها ,عبر تاريخ أجيالها هي السر ذاته الذي ظل يبحث عنه الأجداد ليتجنبوه , وقد أصابته (هو بالتحديد) هذه اللعنة , وهكذا ينكشف له السر ,لكن بعد فوات الأوان .وتلك هي القضية . سره هو بالتحديد .. في المقابل التناص هنا مع عصافير آخر أيام الخريف في سر الغريب الذي حملته النبوءات (أجمل فتاة في نطاق الصحراء , وحتى حدود المدارات الماطرة , في عمق الاستواء تعيش حياتها ذليلة بسبب انكسار عاطفتها ,بسبب تغير في دورة المواسم يغيرها في نسيان لعنة غريب يفرض عناصر لعنته حولها , تضع مولودا ذكرا , يمتلك مقدرة فرض نبوءة موته ,غريبا منسيا على من حوله , ثم تلد أجمل فتاتين في الدنيا تحنوان على المرضى وتخففان آلام المسنين, التي تتفاقم بسبب ارتباك نبض الحياة (..) قصة أجمل فتاة رأتها عينا بشر , رؤيتها وقفا على أشخاص بعينهم. حينما تتواجد في الزحام يخطفها أمير مسحور وتموت. ثم تعود للحياة بفضل بركة شيخ يولد في القرية ص :193 ) ليحيلنا هكذا إلى الشيخ الطيب صاحب الجزيرة التي اختفت ؟!..الجزيرة الشبيهة بجزيرة بندر شاه ..
 
إذن هي قصة الغرباء والغربة في هذه الجغرافيا – الوطن – وكما هي العادة (على قول محيميد) "بعد عام أو عامين أو خمسة ستجيئنا حكومة مختلفة, لعلها غير متدينة وقد تكون ملحدة , إذا كنت تصلي في دارك أو في الجامع فإنهم سيحيلونك للتقاعد .. " انه العسف والحرمان من حق الاختيار ..
 
كما هو حال الغرباء اللا- انتماء , والحب لا كرغبة جنسية مؤجلة – بتعريف فرويد- بل كقضية إنسانية مطلوبة . كفعل عسف وقهر , وكمصدر للحياة , قبل أن يكون مصدرا للموت والحرمان بفعل الهجر ..
 
قضية فاطمة نور الصباح (البنية الحكائية المركزية في رواية احمد الملك عصافير الخريف)تأسست على جدليات متعددة المواقع , والتي يبرز فيها موقع المثقف المهزوم والغائب غيابا فاجعا ومأساويا إلى حد الرؤى الكافكاوية , بروزا مشابها لموقعه في (الزندية – لإبراهيم بشير) ففاطمة نور الصباح لم تختار الإجابة على سؤالها الأساسي , كما لم يختار محيميد أي إجابة من قبل(بندر شاه) .. فالإجابات فرضت على الجميع فرضا (وبعد داك كل شيء مشى بالعكس , الإنسان لازم يقول : لا . من أول مرة . (..) بقيت أفندي لان جدي أراد , ووقتين بقيت أفندي كنت عاوز أبقى حكيم , بقيت معلم , وفي التعليم قلت ليهم : اشتغل في مروي . قالوا : تشتغل في الخرطوم . قلت ليهم ادرس أولاد , قالوا تدرس بنات . وفي مدرسة البنات قلت ليهم ادرس تاريخ . قالو تدرس جغرافيا . وفي الجغرافيا قلت ليهم ادرس أفريقيا . قالوا تدرس أوروبا وهلمجرا) . فحق الاختيار لكل شيء معدوم .حتى الحق في الحياة والخيارات الأكثر خصوصية .
 
….هامش : ….
 
(*) هذا المقال هو الحلقة الرابعة والأخيرة من قراءة نقدية مقارنة بعنوان : الحنين والآخر(الغريب) وفوضى التاريخ . نشرتها في عمودي (تواصل) بالصحافي الدولي في الفترة من 7 أغسطس إلى 2 سبتمبر : على مدى أربعة أسابيع . وللأسف لم أجد سوى هذه الحلقة (الأخيرة) التي نشرت بتاريخ 2سبتمبر 2002.فعذرا لهذا البتر الذي لم تكن لي فيه حيلة . أرجو ممن لديه الحلقات الأخرى أن يبعث بها إلىّ.
 
 
 
الخريف يأتي مع صفاء
 
 
 
مقدمة
عنوان هذه الرواية هو "الخريف يأتي مع صفاء" للكاتب أحمد الملك. الرواية منشورة عام 2003 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت. بالكتاب إهداء الى والد المؤلف الراحل، بعده كلمة شكر، وعلى الصفحة رقم 9 قصيدة للشاعر الصادق الرضي.
الصفحات 11-13 تحتوي على مقدمة كتبها الصاوي يوسف، واصفا فيها المسيرة الادبية للمؤلف. ذكر المقدم ان الكاتب قد نشر من قبل في السودان ، ويواصل النشر هنا في الغرب، ولكن ارتباطه بقضايا وطنه ازداد وهو في الغرب. عاصر أحمد الملك مختلف الحكومات والانقلابات في السودان، وما أكثرها، وتلك هي بالذات الاحداث التي يكتب عنها. عنوان المقدمة هو "الواقعية الساحرة" ويتضح من المقدمة ان كاتبها يري ان أحمد الملك يصور الواقع بصدق ولكن بطريقة تسحر القارئ. يتكون الكتاب من 28 فصلا غير معنونة.
 
المضمون
والحق يقال: الكتاب ساحر فعلا. الكتاب يمتع، والكتاب يجعل القارئ يضحك ويبكي في نفس الوقت. الكتاب يحكي عن تطورات "المشير" وهو رجل من قرية فقيرة في الريف السوداني، قام بانقلاب مع بعض رفاقه فنجح. والخيط الذي ينتظم الكتاب هو هذا المشير، نتعرف على مراحل مختلفة من حياته، وبالتحديد مرحلة الاعداد للانقلاب ثم الانقلاب نفسه، ثم الفترة التي تلت ذلك حيث بدأت الثورة تأكل ابناءها، الدكتاتور الجديد، الذي أعدم جميع رفاقه، وحيث بدأت تواجهه المشاكل العادية في ادارة البلاد: محاربة الجوع، والحصول على قروض من صندوق النقد الدولي، وايضا بعض الممارسات الغامضة كتهريب وبيع السلاح للانظمة "الصديقة" وللحركات المعارضة لتلك الانظمة الصديقة. يصف الكتاب مقابلاته مع مختلف وزراء المالية الذين يعينهم، يفصلهم، ويعدمهم. بجانب ذلك هناك قصة الحرب الاهلية المستمرة بلا نهاية. وعلى الخلفية نتابع التطورات في القرية التي جاء منها. من سيكون عضوا في لجنة الاستقبال ومن لا يكون. وخيط الرواية ليس خطا واحدا مستمرا في الزمن، هناك قفزات في الزمن ولكنها لا تزعج.
في نفس الوقت نجد انفسنا نتسلل الى العالم الفانتازي والحقيقي للرجل. كان ينام ويحلم بانتظام. ونحن نتعرف عليها جميعا. لم يكن يعرف كيف سار انقلابه ولكنه نجح. فالجميع كانوا نياما. لن يستطيع لا حقا ان يجد منزله، بينما هو يسافر للاستقبال العظيم في قريته. كذلك يبكي ذلك المسئول كثيرا عند موت امه في حادث سيارة. يعثر عليه مساعدوه وهو يبكي ويواصل البكاء. لم يعرف أحد كيف يتصرف معه. ولكنه استجمع نفسه وتوقف عن البكاء.
تتردد ايضا في الكتاب تلك الصورة الاولى للمسؤول في بداية استيلائه على السلطة. تعود هذه الصورة كثيرا خلال الرواية، ولكن بدرجة عالية من المصداقية. كان حينئذ في افضل اوقاته: مباشرة بعد نجاح الانقلاب. فيما بعد في الرواية لن نرى كثيرا من هذه الصورة الزاهية، بعد كل الفساد والانحرافات.
ما يجعل الكتاب جذابا، ايضا، هو استخدام اسماء حقيقية لاشخاص، واسماء اماكن حقيقية موجودة. هذا يعطي انطباعا بان وقائع الرواية يمكن ان تحدث فعلا في الواقع، وفي حالة هذا الكتاب، فانني اجد هذا الامر ليس سيئا. انه، في الحقيقة، ليس كتابا في التاريخ. انه وبوضوح رواية ادبية، تصور بشكل دقيق سايكولوجية الرجل الذي استولى على السلطة، مما قد يبدو بديهيا: فهو مثل كل البشر يبكي وله أم، ولكن هذا لا يزعج. أن الطريقة التي صور بها المسؤول في حالاته العاطفية والمهنية الوظيفية، تشد القارئ وتبقيه في قبضتها.
بشكل كوميدي، تصف الرواية كيف ان المطر نزل عند استيلاء المشير على السلطة، بعد سنين طويلة من الجفاف. هناك كحول كثير بشرب في هذه الرواية، ان وصف موت رفاقه في الحرب الاهلية لهو وصف تراجيكوميدي مؤثر. ان المشير يغسل الاواني، وهو أرمل، ولكنه لم يكن يحب زوجته. ففي العامين الذين قضاهما زوجا لها، اتلف كل ما كان في المنزل، فهو كان مصارعا. ووصْف سكان القرية مضحك وصادق. تتكرر في الرواية "ثيمة" الراديو كثيرا: (أثناء الانقلاب، عند فصل وزير من وزراء المالية الكثر، عند الانقلاب المضاد الذي فشل). الدكتورة صفاء، المرأة، تلتصق بذكرياته، فقد جاءت مع انقلابه، مع المطر في الخريف.
للمؤلف معرفة جيدة بالنباتات. انه يصف أشكال والوان أشجار عديدة، يصف ذلك بشكل خبير ومقنع "أنا ليس لي معرفة كبيرة بالاشجار". انها تزيد من جمال الكتاب.
جدير بالانتباه استعمال كلمة "الخريف" هنا في عنوان الرواية. توجد بالتاكيد كلمة عربية لفصل الخريف، ولكن مفهوم فصل الخريف ليس له وجود يذكر في مناخ العرب. في كثير من البلدان العربية ينتقل الصيف فجأة الى الشتاء. أما الربيع فهو موجود فعلا: حين يصير الجو لطيفا ومحببا. يمكن القول ان استعمال كلمة الخريف هنا نابع من كون المؤلف موجود في الغرب، حيث للخريف وجود ودور هام في مخيلة الناس في الغرب.
 
اللغة العربية
اللغة المستخدمة قليلا ما يكون "سهلا" متابعتها. بالطبع جمل طويلة، ولكن هذا امر مالوف في اللغة العربية. كذلك اختيار الكلمات ظل بسيطا: لحد ما كلمات معاصرة، تجعل القراءة ممتعة. قليلا ما يستخدم المؤلف دارجية محلية.
 
التقييم
هذا أحد الكتب العربية القليلة التي استمتعت بقراءتها، وجعلتني أضحك كثيرا اثناء قراءتها. لا يتبادرن الى ذهنك ان هذه رواية هزلية. بالعكس. انها تصف سخرية السلطة، الانحراف والفساد الذي يصاحب السلطة، وبالرغم من أن الكتاب يصف ذلك ليس بشكل مدرسي، وانما بصورة مركزة وبالتاكيد واقعية وساحرة (انظر اعلاه)، الا انه يعطي الانطباع بذلك. كذلك تصوير سايكولوجية ذي السلطة تم بشكل مقنع جدا. الكتاب يذكرني برواية "عقوبة مدى الحياة" للكاتب رشيد ميموني التي يصف فيها الكاتب بطريقة مشابهة تحولات ذلك الصبي الذي كبر وصار رجلا ليدخل الجيش، يستولي على السلطة ويصبح جنرالا، بما في ذلك تواريخ حبه المتعددة، ثم أفول نجمه. ولكن في هذه القصة لن نجد سيرة سقوط سلطة المشير، انه ينتهي في قريته وسط اوهامه وغفوته.
 
بناء على الاعتبارات المذكورة أعلاه، فانني سأعطي هذا العمل درجةبكل سرور. واعتقد ان هذا الكتاب سوف يكون كسبا للجمهور الهولندي القارئ.
 
يان ياب دو راويتر
متخصص وأستاذ الدراسات العربية بجامعة تلبورخ، هولندا
يونيو
 
2003
 
الترجمة من الهولندية: د. الصاوي يوسف
 
 
 
دراسة في رواية الفرقة الموسيقية
 
 
 
بقلم الاستاذ بكري جابر
 
 
 
تنفتح الرواية منذ البداية علي خطاب جمالي شفيف يستدرج القارئ سريعا الي عالمها الرحب والمدهش عبر لغة معقولة رقراقة تنفجر من بين طيات السرد لنجد انفسنا في مواجهة خطاب روائي جديد ومختلف في سياق التجربة الروائية السوداينة وربما العربية ايضا. فنحن هنا امام مغامرة روائية جريئة تفصح في منطوقها السردي عن غرئبية مدهشة تفضي الي عالم فانتازي يسوق ذهن القارئ الي تجربة الروائي الكولومبي الشهير جابرييل جارسيا ماركيز، والتي يبدو انها صبغت بصبغتها عددا من الورايات العربية لعمق اثرها وتأثيرها بين الروائيين العرب المحدثين. واذا كان أحمد الملك قد تأثر بهذا المناخ الماركيزي فربما كان يجد مرجعيته في البيئة السوداينة التي تضج بالاسطورة والغرائبية والتي تتشابه الي حد بعيد مع نظيراتها في امريكا اللاتينية وربما تتفوق عليها.
 
اذا فالروائي هنا في نزوعه نحو الفانتازيا والغرائبية في أعماله القصصية والروائية يتكئ علي موروث سحري غرائبي تحفل بهما البيئة الشعبية السوداينة المليئة بالحكايات والاساطير والوقائع السحرية مما يشكل نسيجا اسطوريا يغلف بنية الوعي الشعبي. فمن هذا المناخ العجائبي استمد أحمد الملك مشروعية استثماره للفانتازيا داخل أعماله السردية وليس عبر التأثير الماركيزي فقط والذي لا يخفي اثره علي لغة الملك الروائية.
 
ويبدو ان هذا اللجوء الي الفانتازيا هو من اجل خلق عالم اسطوري مواز للواقع الاسطوري خارج الرواية، ذلك الواقع الذي يضج بالغرائبية والعبثية واللامنطقية بصورة اكثر مما هي متحققة في عمل فانتازي متخيل. وبذلك تشكل الروايو عبر بنائها الدرامي المحكم وشخصياتها الممسوخة وتهكمها الصارخ أعلي هجائية للواقع وللتاريخ معا. ذلك الواقع المكتظ بالزيف والنفاق والاستبداد والتسلط والذي يسحق القيم والمبادئ ولا يقدم لانسانية الانسان شيئا سوي العدم.
 
 
 
وحتي تتسع دائرة هجائيتها ونقدها الاذع وتعريتها الشرسة للواقع والسلطة والانسان، تحررت الرواية من عنصري الزمان والمكان اللذان يستند اليهما معمار اي عمل درامي وسردي، حتي ليبدو وكأن قولها ينسحب علي كل الازمنة والامكنة، وهذا الافلات من قبضة الزمان والمكان تلجأ اليه العديد من الروايات الحديثة وينتهجه الملك في معظم اعماله القصصية والروائية كقيمة سردية يعمد اليها كي يفتح خطابه الروائي علي كل زمان ومكان.
 
منذ لحظة ولوجنا الي عالم الرواية نقتحم فضاءها الفانتازي والغرائبي حيث الانا الساردة والشخوص ليسوا بشرا وانما كلاب، اذ تنبجس الرواية هكذا معلنة عن افقها الغرائبي: كانت نشأتي الاولي ككلب صغير عادية لدرجة مذهلة، وبذلك يحدد الراوي هويتهمنذ البدء ككلب يروي وقائع تنتمي الي عالم الكلاب اكثر من انتمائها الي عالم البشر، الامر الذي قد يصرف ذهن القارئ الي اعمال كافكا الروائية وخاصة في رائعته تحريات كلب والتي يمثل فيها الكلب الشخصية المحورية للرواية مع ان الفرق هنا هو ان جميع شخوص الرواية هم الكلاب ولكأن الروائي في سعيه الي مسخ شخصياته يرمي الي تسفيه الواقع الانساني بغية نقده وتعريته وكشف زيفه واباطيله.
 
ومع ان جميع شخصيبات الرواية هم من الكلاب او اناس مسخوا كلابان الا ان الفضاء الذي يتحركون فيه يبدو فضاء ينتمي الي عالم الانسان، فيتداخل ما هو بشري مع هذا المسخ حتي ليصعب الفصل بينهما.
 
وهذه الشخصيات في وصفها الممسوخ، والذي يناقض الحالة الانسانية، تبدو فخورة بكونها تنتمي الي عالم الكلاب اكثر من انتمائها الي عالم البشر. فالراوي وهو الشخصية المحورية للرواية توبخه امه دائما بأن (الوقت ما زال طويلا لتصبح كلبا) وكأن حالة كونه كلبا تحقق انتمائه لهذا العالم اكثر من كونه انسانا. وتمضي الرواية في اعتزازها بهذا العالم (عالم الكلاب) حتي ليصبح في نظر الراوي ان ( اي كلب محترم جدير بأن يستهجن هذا السلوك) وفي ذات السياق يصف الراوي الكتب المرصوصة في بيت خاله بأنها عصارة الفكر الكلبي وليس الانساني.
 
ومع ذلك يتداخل البشري او الانساني مع الصفات الكلبية ولكأن الروائي لا يريدنا ان ننسي ان هذه الشخصيات – الكلاب ما هي الا رموز بشرية ليزيحها عن حقلها الحيواني، اذا تحتوي الرواية علي الكثير من العبارات والجمل التي تؤكد هذا التداخل والالتحام بين ما هو بشري وحيواني، كقوله: كان بجانبي كلبان أحدهما غارق في تأملات اشخصية، وليست تأملات كلبية كما كان يقتضي منطق السياق. او كقوله: بعد أيام صحبني داني الي شخص قال لي انه ملحن مشهور للاغاني، فنفاجأ بأن هذا الشخص ما هو الا كلب عجوز. وفي موضع اخر من الرواية نقرأ كانت هي المرة الاولي التي ازور فيها السجن، القي بنا في زنزانة صغيرة كان يشاركنا فيها شخص اخر ، اصفر له ذيل مصبوغ بلون أحمر، او كمثل قوله: وبعد قليل جاء الطبيب للاطمئنان علي، كان كلبا شابا وقورا يرتدي نظارات باطارات مذهبة وحذاء قطني خفيف.
 
وهذا التشابك القوي والحميم بين ما هو انساني وما هو حيواني هو ما يرفع أعمدة هذا البناء الدرامي للرواية بوصفها فانتازيا تمسخ الواقع والانسان لتهجوهما معا، متقنعة بأقنعة سردية تتخذ من الكلب ذلك الحيوان المستهجن ستارا لخطابها الجمالي والغرائبي.
 
 
 
لغة وصفية وليست حوارية:
 
 
 
في مسيرتها السردية تنزع هذه الوراية الي تهشيم السرد بمعناه التقليدي ، اي ذلك السرد الترابي المنتظم زمانيا ومكانيا. فتتداعي فيها وحدة الحدث الدرامي لتتناثر علي جسد الرواية كحكايات مبعثرة وفقا لمنطق التقطيع والتركيب والتداعي الحر والفلاش باك كأسلوب سردي اعتمده الروائي كجزء من لعبته الفانتازية. اذا فالفانتازيا هنا ليست مضمونا روائيا فقط وانما شكل واسلوب انتهجه الروائي ليتناغم الشكل والمضمون في توصيل خطابه الروائي.
 
والي جانب السرد المتقطع تخلو الرواية من الحوار اذ لا نتوفر علي اي جملة حوارية الا ما يأتي علي لسان الراوي في سياق سرده مستنظقا به الشخصيات الاخري، لذل فلغة الرواية يهيمن عليها مستوي واحد من مستويات السرد وهو اللغة الوضعية مع اقصاء تام للغة الحوارية. حتي ليبدو وكأن الروائي يسعي الي الافلات من مأزق استنطاق شخوصه من الكلاب بما هو بشري وانساني.
 
وقد جاءت لغة السرد في الرواية لغة مقتصدة وانيقة تفج بالشاعرية والجمال برغم اعتماده في كثير من الاحيان الجمل الوصفية الطويلة والتي ربما تستغرق صفحة كاملة دون اي علامة ترقيم او وقف وكأنها نشيد غنائي طويل، كما في هذا المقطع البديع: كان ينمو فجأة في احشاء الضوء ويتسرب في صورة زخات مجنونة الي أعماق نفسي وفي احدي المرات حاولت هزيمته بالعودة الي الغناء الا انني وتحت تأثير فاحم اضطررت لترك الاغنية دون اكمالها وغادرت المكان مخلفا ارتباكا مدهشا ولحسن الحظ فان خروجي من المكان واستنشاقي لهواء الليل الممزوج بعبير سري مبهج جعلني استعيد نفسي قليلا فعدت لمواصلة الاغنية من نفس المقطع الذي توقفت فيه وبذلت جهدا كبيرا لاعادة تسلسل جريان اللحن الذي كانت نهاياته قد تمددت، وتخللها ضعف محزن واشجار صغيرة لها زوائد ضوئية. ولحسن الحظ فإن معظم المشاهدين لم يلاحظوا غيابي.
 
 
 
البعد عن التقريرية والخطابة:
 
في مستوي اخر تستبطن رواية الفرقة الموسيقية نقدا للسلطة في كافة تجلياتها، ولأن الاقتراب من السياسة بمعناها المباشر هو أحد التابوات التي تثير حفيظة السلطة السياسية وجهازها الرقابي فقد لجأت الرواية الي التعمية الرمزية لتفلت من المحظور من ناحية. ولتكثف خطابها الجمالي بإبعاده عن المباشرة والتقريرية، لأن الرواية – وبالتالي اي عمل ابداعي اخر – باعتبارها عملا ابداعيا تجنح الي الافلات مما هو واقعي ومباشر لتقدم خطابا جماليا متخيلا لا وجود له الا في ذهن الروائي المنتج لها، لذلك كلما كانت الروايةو مثقلة بالرموز والايماءات كلما التصقت اكثر بجنس الابداع وحققت انزياحها المرجو عن الواقعي واليومي والمعيش.
 
ومع ان هذه الرواية تذخر أحيانا ببعض الاشارات السياسية كالحديث عن البرلمان والانتخابات والمظاهرات الا ان تسربها الشفيف داخل نسيج الرواية وتوظيفها المتفق بفنية عالية يصرف ذهن القارئ عن احالاتها السياسية خارج الرواية.
 
 
 
معزوفة اللغة:
 
تقدم الرواية الشخصية المحورية او الراوي كشخصية او ككلب يسرد وقائع حياته العادية بدءا من نشأته وحتي انتهائه الي مستشفي الامراض العقلية والعصبية، وبين المنشأ والمآل تتناثر وقائعها السردية التي افضت بالراوي الي المستشفي. فالراوي الكلب موسيقي أحب الموسيقي وعشق الغناء بعد فشله في الحصول علي وظيفة بعد تخرجه من الجامعة الامر الذي ساقه خائبا الي الغناء كوسيلة لكسب الرزق – وحينما بدا الوقت مواتيا بدأت الغناء كان صوتي في البداية قبيحا ومفككا بدون ماض او ذاكرة وينهار في شكل زخات ترابية مكثفة، ولكن بعد فترة قصيرة أصبت نجاحا مذهلا خاصة وان محاولاتي لتجريد الغناء من احزانه التقليدية لاقت استحسانا شرسا من اولئك الذين يحيذون فكرة نسيان الماضي.
 
ومن ثم لم يمض وقت حتي كون الراوي فرقته الموسيقية ولكنه مني بخيبات متلاحقة اودعته مستشفي المجانين، وبعد خروجه منها لم يجد امامهبدا الا السير في ذات الاتجاه القديم، فيقول: - توقفت عربة الضجة بجانبين ورغم غبار السنوات تعرفت علي صديقي داني ورغم تراكم السنوات كان قد احتفظ بمظهره الاستفزازي واحلامه الشرسة واوهامه التي تحدي بها جحيم التذكارات، ولم تمض دقائق حتي كنت قد وافقت علي عرض مرتجل بالاشتراك في الفرقة التي كانت تقدم خدمات عاطفية متجولة لحفز الذكريات الاكثر قدما وتمريغها في وحل الزمن الاتي.
 
وهكذا تنساب الرواية في تدفقها الجمالي محتفية بالغناء والموسيقي ويمكن القول ان الوراية عبر رحلتها السردية تشكل مقاطع متعددة ومتنوعة لسمفونية لغوية يديرها الروائي ببراعة واحكام وكأن هذه الفرقة الموسيقية التي كونها الراوي كي تساعده علي الغناء في المناسبات ما هي الا اوركسترا متناغمة تحتشد في لغة الرواية. فالغناء يتناثر علي جسد الرواية ويرصعه حتي لتبدو الرواية في احتفائها به كمعزوفة لغوية فريدة يمسك فيها أحمد الملك بعصا المايسترو ليضبط ايقاعاتها ويحرك جوقتها الموسيقية.
 
 
 
نشرت بجريدة الخرطوم. تاريخ النشر غير محدد بسبب حصولي علي صورة من المقال تخلو حتي من عنوان المقال.
 
 
عفيف اسماعيل
 
 
 
الخريف يأتي مع صفاء
 
 
 
 "موقف الطاغية، هو موقف ذلك الذي يقطع الشجرة لكي يقطف ثمرة"
 
مونتسكيو
 
 
 
يفتتح الروائي احمد الملك روايته بمجتزاء من نص "غناء العزلة ضد العزلة" للشاعر الصادق الرضي،ويشكل هذا النص ملمحاً لا يغيب عن الذاكرة الثقافية السودانية حيث يعتبر واحداً من اهم النصوص الشعرية في العقدين الاخرين من نهاية القرن العشرين، وتحفل جمل النص وصوره الشعرية بجمالية تصورية فائقة الدقة لخلق التصورات عن الحلم والواقع وتستشرف أفق غد يحمل جينات وراثية من الماضي، ويعج النص بنبواءت مازالت تعتمل،وذاك احد شفرات هذا النص التي جعلت تمدده مستمر في كمون الواقع السياسي والاجتماعي السوداني وأزماته المستديرة. وقد خلق أثراً جديداً في العمل السياسي الطلابي في التسعينات فصار أحد ادوات التعبئة الإحتشادية للندوات السياسية في الجامعات والمعاهد العليا السودانية، مشكلاً ذاكرة جديد بعيدة عن شعر الجهارة الثورية الذي يخص هذه التظاهرات السياسية. وكثيراً ما تجد مجتزاءات من هذا النص المدهش مزينة بالرسوم والالوان علي جرائد كل القوي الديمقراطية وبطاقات تضامنهم ودعمهم الشعبي. وحصافة الروائي احمد الملك جعلتة نافذتة الأولي للقاري لكل يطل إلي عالم المشير الدكتاتور في عزلتة وفراغه الروحي الرهيب.
 
يتقصي الروائي احمد الملك في خيوطة روايتة سيرة المشيرالدكتاتور الذي جثم علي انفاس شعبه لعقود متتالية، عبر ثلاثة ازمنة من عمر المشير ، فترات الدراسة وطفولة، اوج الاستبداد بالسلطة، الوحدة والفراغ الروحي والنسيان.هذه الأزمنة ليس بهذه التراتبية التصاعدية المذكورة، إنما تتداخل بين خيوط السرد المحكم لتبني نسيج الرواية في تناسق يتركز علي سيرة الدكتاتور في اوج قمعه وجبروته، وفي وهدة فراغه الروحي والنسيان، وتتقاطع أزمة الدراسة، والطفولة بينهما لتعمق ترابط السيرة الزمني. وهي سيرة تتكئ السيرة علي احداث واقعية سياسية يعرفها كل أهل السودان، للوهلة الاولي قد تلمح بين السطور ميل نحو التأرخة لكنة يتجنب ذلك ببراعة حرفية بخلق شخوص جديدة ينحو بها نحو أسطرة هذا الواقع المهيمن، ويستلهم في ذلك كل المخزون الأسطوري السوداني الثقافي المتنوع مثل "الأميرة مينيساي التي تتحول الي ريح،وتختفي تماما كما حدث لجدها الملك نيكانج العظيم، والعقيد خليفة أحمد بركات الذي تحول الي كجور ذو مقدرات خارقة فقد استطاع ان يخرج من يد المشير وهو يصافحه ثلاثة أحجار وعصا صغيرة من الأبنوس ومجموعة من العظام النخرة والفردة اليسري لبوت عسكري وعنكبوتاً صغيراً ولي هارباً بمجرد ان خرج من جسد السيد المشير،العصا التي ارسلها الي السيد المشير الشيخ الحسين ود الضرير لكي تحمية من الرصاص…"
 
عبر سرد متزامن تتشكل ملامح الرواية لسيرة المشير الدكتاتور وفظاعة ممارسته للسلطة، وتنكيله بكافة خصومه بشهوة عارمة في التقتيل، والاستلذاذ بمشاهدة الاعدامات، ويصدر اوامره علي حسب مزاجه الدموي ودرجة إقتراب الانقلاب العسكري من إقتلاع سلطته، احياناً شنقاً حتي الموت وحينا رمياً بالرصاص، والارامل والثكالي صرن نصف سكان الوطن،فبين كل إنقلاب وانقلاب مذبحة بشرية، وأجهزة امنه تمده بالاكاذيب المستمرة وتزيف له ما يحدث في الواقع، يتحدثون عن الرخاء بينما المجاعة تأكل كل أطراف الوطن وسكان الريف هجروه بعد ان نفقت ماشيتهم وجف زرعهم وصاروا يشكلون أحزمة للفقر تطوق المدن الكبرى، يدبجون التقارير عن مشاريع التنمية التي تعمل بكفاءة بينما العنكبوت والغبار يغطي جدران تلك المصانع،والصحافة الرسمية تنسج الأكاذيب لم يعد احد يشتريها فقط باعة السندوشات لكثرة عدد ورقها وقلة ثمنها، يقولون الأمن مستتب، وقبل ان يكمل قراءة التقرير يسمع دوي الرصاص، فيعرف انهم بصدد دحر محاولة إنقلابية اخري الذي يليها مزيداً من الدماء والسجون التي اكتظت بالمعتقلين مما حدا بالسيد المشير با ن يصدر قراراً بالافراج عن كل اللصوص والمجرمين حتي يتسني له حشر خصومه السياسيين فيها.
 
يتجول الروائي احمد الملك عبر سياحة تاريخية جغرافية فلكلورية تراثية في خارطة السودان، مما اعطي الرواية طقسها السودانوي المميز كما اشار الي ذلك د. الصاوي يوسف في مقدمة الرواية. وهذه السياحة تستهلم المكان بذاكرة شاهد العصر لسلطة المشير وهو يغرق يوماً بعد يوم في الاستبداد وفي وحدته وعزلته ووهدة النسيان التي صارت تسيطر علي كافة أوقاته، وهو الزمن الممتد الذي من خلاله تتداعي ذاكرة المشير لتكون تفاصيل هذا النسيج الممتع وهو في تلك الحالة المزمنة ينسي حتي القرارت التي يصدرها، لقد اضمحلت ذاكرته فهو يقول فجأة اثناء أجتماع مجلس الوزراء :" انا متأكد أنني وضعت ذلك الحذاء فوق المنضدة. او يقول فجاة أثناء إجتماعة مع الوزير الياباني لتسلم دعم دولته لضحايا الجفاف والتصحر:" اليوم فقد زوج من الجوارب، يبدو ان لصاً استطاع الدخول إلي البيت وسرقهما!!أو يعين وزير قبل ان يقيل خلفه، او ترشيح الموتي للوزارت، وابرز تمظهرات النسيان ذهابه الي قريته للتعرف علي بيت اسرته فيخف سكان القرية لإستقباله وهو غارق في دوامة معرفة الرموز القديمة التي كان يعرف بها بيتهم وعبر سبع ليال يحكي لهم عن كل المآسي التي مارسها خلال توليه السلطة بمزاج معتدل وليس برغبة التطهر بذكر تلك الحقائق الدامية الموجعة التي تبين بأن كل ما اهّله لتولي السلطة ما يمتلكة من ماضي ملاكم استطاع ان يحول وطنه إلي حلبة كبري هو وحده المنتصر فيها وتنال لكمته حتي مقاعد المتفرجين.
 
تظل صفاء ذلك الحلم المورق له وجاء بإبيها الفاقد للذاكرة ايضاً،ويعلق اللافتات التي تحدد وجهته، وعيّنه وزيراً للرعاية الاجتماعية واقترح عليه ان تكون الدكتورة صفاء بنته سكرتيرة له والتي تنثر مظاهرالخريف المبكر بقدومها للقصر مقر الوزارة، ويقوم باعتقال خطيبها المحامي وتصفيته بعد ذلك ، وكان يظن بان هذا هو الطريق الي قلبها، وتختفي صفاء فجاة بإرادتها لتشكل ذاك الارق المزمن الذي استعان بكافة جبروت سلطته للبحث عنها ثم بالمشعوذين والدجالين، لكنه فشل إيجاده وتظل هي الرمز أن قوة السلطة مهما كان صلفها وغرورها بان تنال بطغيانها كل من تريد يستطيع ان يهزمها اي فعل يتم بارادة واعية.
 
"الدكتورة صفاء التي ذابت في الوطن كانها لم تكن موجودة أصلاً، والتي بسببها تم أحصاء سكان الوطن ثلاثة مرات خلال عام واحد لكي يتسني لرجال الآمن البحث عنها في كل بيت في الوطن.عثروا علي كل سكان الوطن، عدا الدكتورة صفاء، عثروا علي لصوص هاربين، وموتي منسيين من قبل اشتعال الحرب الاهلية الأولي،وتجار ومزارعين مختبئين منذ سنوات من ملاحقات البنوك والضرائب، وشيوعيين وحزبيين قدامى".
 
لا ينس الروائي احمد الملك ان يتذكر اشراقات الوطن عندما يقدم تلويحة زكية للروائي الطيب صالح عندما يتذكر المشير عمله كبحار في مركب انجليزي في فترة وجيزة من صباه يحكي في أحد الليالي مقابلته للدكتور مصطفي سعيد في لندن ووصفه بدقة للتفاصيل ملامح الفتاة التي كانت برفقته وهي" جين مورس" وايضاً تلويحتان للفنان مصطفي سيد احمد ، الاولي عبر السياحة الجغرافية والثانية التي يفيد بها الانتقال من زمن الي آخر عندما يتسال المشير في وهدة فراغة الروحي ونسيانه : لمن هذه الجنازة العظيمة؟ فيأتيه الجواب: إنها لفنان الشعب مصطفي سيد احمد.عبر هذا الرصد التاريخي الكارثي لأهوال الوطن الانسانية السياسية والبيئوية والاقتصادية ويتجول الروائي ليس بقصد التأرخه بل بتحديد موقفه من هذا التاريخ باسلوبه الساخر من كل هذا العبث.
 
"الخريف ياتي مع صفاء" رواية لها خصوصويتها السودانوية،ببراعة اسلوبيتها الساخرة الممسكة بخيوط وشروط الدقة الفنية سوف تجد مكانها بسهولة في المكتبة العالمية بين "السيد الريئس" لـ استورياس و"خريف البطريك" لـ غبريال غارسيا ماركيز.
 
بيرث
 
 
 
20/9/2004
 
 
 
أحمد الملك في خريفه الجديد
 
 
 
عماد البليك .. الوطن القطرية
 
 
 
 
 
في روايته الجديدة «الخريف يأتي مع صفاء» يواصل الروائي السوداني المقيم في هولندا أحمد حمد الملك بناء عالمه السحري المدهش في عمل نشرته المؤسسة العربية للدراسات والنشر‚ في 262 صفحة من القطع المتوسط
 
 
 
كانت انطلاقة الملكي الابداعية في عام 1991م عندما صدرت له عن دار جامعة الخرطوم للنشر رواية «الفرقة الموسيقية» ثم عن نفس الدار في عام 1996م رواية «عصافير آخر أيام الخريف» ثم رواية «الموت السادس للعجوز منوفل» عن دار الأهالي في دمشق عام 2001م
 
 
 
ويتخذ أحمد الملك المولود في أرقو بشمال السودان عام 1967م‚ خطا روائيا بنفس خاص‚ يقوم على بنى الواقع السوداني‚ وإعادة تشكيلها بمرآة سحرية خاصة‚ وصفت عند صدور أول عمل له من قبل الدكتور بشرى الفاضل بأنها تشبه طريقة غابرييل غارسيا ماركيز في واقعيته السحرية
 
 
 
يذهب الدكتور الصاوي يوسف في تقديمه للرواية الجديدة للملك الى ان العبارة عند أحمد الملك تبدو وكأنها تعبير عن موقف اسطوري مليء بالسخرية والمرارة‚ بمعزل عن سياق القص التقليدي
 
 
 
وتناقش الرواية واقعا سودانيا في تجربة جعفر النميري في الحكم‚ يقول الصاوي عن التجربة «لعل الكثيرين من قراء احمد الملك سيظنون ان شخصية المشير الفاقد للذاكرة هي من وضع الخيال‚ في حين ان كثيرا من السودانيين سيكتمون ضحكات الشماتة‚ وهم يرون مصير المشير المعتوه‚ المثير للشفقة‚ فهم يعرفون المشير حقا‚ وهو ما زال بينهم‚ ليس فقط بلحمه ودمه‚ وانما ايضا بآثاره وما صنعت يداه في البلاد»‚
 
 
 
وهي رواية كما وصفها الصاوي ليست رواية تاريخية‚ او تمثل موقفا من التاريخ‚ هي «قراءة لغابات هذا المجتمع المتصارع‚ مجتمع تسحقه الدكتاتوريات العسكرية‚ وعظمة القادة المتوهمة المتآكلة مع مرور الزمان‚ مجتمع تلوكه الحرب الاهلية بين أضراسها‚ وتلفظه بقايا محطمة‚ بينها صراعات صغيرة وكبيرة لم تزل تنتظر دورها في التسوية»‚
 
 
 
بشكل مباشر يمكن القول ان رواية «الخريف يأتي مع صفاء» هي إضافة لبعد جديد في الرواية السودانية الجديدة‚ يتمثل في انتقالها من محطات القراءة المباشرة لمركبات المجتمع السوداني التقليدي‚ في فضاءات القرية‚ والمدينة‚ فبمولد عمل مثل «الخريف يأتي مع صفاء» يكون هناك دور للرواية في حفر أغوار الترهلات السياسية في الواقع السوداني‚ ونبش الانظمة الديكتاتورية‚ والشخصيات المتسلطة على مصير شعب مضطهد ومسكين
 
 
 
التحول الذي يحدث الآن في مسار الرواية في السودان يجعلها تنأى عن مركب العادية‚ وتجتاز مرحلة بنائها الى مرحلة حداثتها‚ وتماحكها مع المجتمع المدني الجديد‚ ومناقشة هموم ما بعد الستينيات‚ وواقع الصراع بين الريف والمدينة كما في روايات الطيب صالح
 
 
 
يقول الراوي في الرواية عن الديكتاتور «شاهد الزحف الصحراوي يغرق جدران المنازل‚ وشاهد الاحياء يزحفون في شوارع ضوء الشمس المحرقة بملابس الموتى‚ وشاهد قضبان آخر قطار عبر صحراء الوطن‚ ناقلا جنود اللورد كتشنر أواخر القرن التاسع عشر‚ وشاهد أحجار الأساس لمشروعات التنمية المنسية وقد طمرتها رمال الزحف الصحراوي‚ ولم تبق لأحد ولا حتى الرغبة في تنظيف هذه الاحجار التذكارية التي يصعب تحديد العصر الذي شيدت فيه اعتمادا على الكلمات المكتوبة عليها والتي محيت بفعل عوامل التعرية‚ ويستمر في سرد وقائع تجدد الحرب الاهلية‚ و(التمرد)‚ وجنون الواقع الجديد في عمل كما قال الدكتور الصاوي المقيم في كولمبورخ ينسج زمانا خاصا به‚ ويضع في اطار تلك العجينة العجيبة الثرة من اشخاص وأحداث عهد المشير‚ و«يعمل الملك بمقدرته الفذة في الامساك بمفاصل الشخوص والأحداث‚ وتحريكها بمهارة‚ ولعله قد تلاعب بها عمدا‚ ربما انتقاما من كل ما مثله المشير من طغيان وتلاعب بمصير البشر»
 
 
 
 
 
طلبت منظمة "بيت الكتاب" من الدكتور يان دو راويتر المتخصص في الدراسات العربية قراءة رواية "الخريف ياتي مع صفاء" للروائي الاستاذ أحمد الملك ، وابداء رأيه عنها قبل ترجمتها الى اللغة الهولندية. فكتب القطعة التالية. والحكيم تفخر بنشر هذه الشهادة العظيمة حول عمل ابداعي عالمي لأحد أعضاء الجالية السودانية بهولندا وأحد أعضاء الجمعية العلمية. واليكم نص الشهادة:

مقدمة
عنوان هذه الرواية هو "الخريف يأتي مع صفاء" للكاتب أحمد الملك. الرواية منشورة عام 2003 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت. بالكتاب إهداء الى والد المؤلف الراحل، بعده كلمة شكر، وعلى الصفحة رقم 9 قصيدة للشاعر الصادق الرضي.
الصفحات 11-13 تحتوي على مقدمة كتبها الصاوي يوسف، واصفا فيها المسيرة الادبية للمؤلف. ذكر المقدم ان الكاتب قد نشر من قبل في السودان ، ويواصل النشر هنا في الغرب، ولكن ارتباطه بقضايا وطنه ازداد وهو في الغرب. عاصر أحمد الملك مختلف الحكومات والانقلابات في السودان، وما أكثرها، وتلك هي بالذات الاحداث التي يكتب عنها. عنوان المقدمة هو "الواقعية الساحرة" ويتضح من المقدمة ان كاتبها يري ان أحمد الملك يصور الواقع بصدق ولكن بطريقة تسحر القارئ. يتكون الكتاب من 28 فصلا غير معنونة.
المضمون
والحق يقال: الكتاب ساحر فعلا. الكتاب يمتع، والكتاب يجعل القارئ يضحك ويبكي في نفس الوقت. الكتاب يحكي عن تطورات "المشير" وهو رجل من قرية فقيرة في الريف السوداني، قام بانقلاب مع بعض رفاقه فنجح. والخيط الذي ينتظم الكتاب هو هذا المشير، نتعرف على مراحل مختلفة من حياته، وبالتحديد مرحلة الاعداد للانقلاب ثم الانقلاب نفسه، ثم الفترة التي تلت ذلك حيث بدأت الثورة تأكل ابناءها، الدكتاتور الجديد، الذي أعدم جميع رفاقه، وحيث بدأت تواجهه المشاكل العادية في ادارة البلاد: محاربة الجوع، والحصول على قروض من صندوق النقد الدولي، وايضا بعض الممارسات الغامضة كتهريب وبيع السلاح للانظمة "الصديقة" وللحركات المعارضة لتلك الانظمة الصديقة. يصف الكتاب مقابلاته مع مختلف وزراء المالية الذين يعينهم، يفصلهم، ويعدمهم. بجانب ذلك هناك قصة الحرب الاهلية المستمرة بلا نهاية. وعلى الخلفية نتابع التطورات في القرية التي جاء منها. من سيكون عضوا في لجنة الاستقبال ومن لا يكون. وخيط الرواية ليس خطا واحدا مستمرا في الزمن، هناك قفزات في الزمن ولكنها لا تزعج.
في نفس الوقت نجد انفسنا نتسلل الى العالم الفانتازي والحقيقي للرجل. كان ينام ويحلم بانتظام. ونحن نتعرف عليها جميعا. لم يكن يعرف كيف سار انقلابه ولكنه نجح. فالجميع كانوا نياما. لن يستطيع لا حقا ان يجد منزله، بينما هو يسافر للاستقبال العظيم في قريته. كذلك يبكي ذلك المسئول كثيرا عند موت امه في حادث سيارة. يعثر عليه مساعدوه وهو يبكي ويواصل البكاء. لم يعرف أحد كيف يتصرف معه. ولكنه استجمع نفسه وتوقف عن البكاء.
تتردد ايضا في الكتاب تلك الصورة الاولى للمسؤول في بداية استيلائه على السلطة. تعود هذه الصورة كثيرا خلال الرواية، ولكن بدرجة عالية من المصداقية. كان حينئذ في افضل اوقاته: مباشرة بعد نجاح الانقلاب. فيما بعد في الرواية لن نرى كثيرا من هذه الصورة الزاهية، بعد كل الفساد والانحرافات.
ما يجعل الكتاب جذابا، ايضا، هو استخدام اسماء حقيقية لاشخاص، واسماء اماكن حقيقية موجودة. هذا يعطي انطباعا بان وقائع الرواية يمكن ان تحدث فعلا في الواقع، وفي حالة هذا الكتاب، فانني اجد هذا الامر ليس سيئا. انه، في الحقيقة، ليس كتابا في التاريخ. انه وبوضوح رواية ادبية، تصور بشكل دقيق سايكولوجية الرجل الذي استولى على السلطة، مما قد يبدو بديهيا: فهو مثل كل البشر يبكي وله أم، ولكن هذا لا يزعج. أن الطريقة التي صور بها المسؤول في حالاته العاطفية والمهنية الوظيفية، تشد القارئ وتبقيه في قبضتها.
بشكل كوميدي، تصف الرواية كيف ان المطر نزل عند استيلاء المشير على السلطة، بعد سنين طويلة من الجفاف. هناك كحول كثير بشرب في هذه الرواية، ان وصف موت رفاقه في الحرب الاهلية لهو وصف تراجيكوميدي مؤثر. ان المشير يغسل الاواني، وهو أرمل، ولكنه لم يكن يحب زوجته. ففي العامين الذين قضاهما زوجا لها، اتلف كل ما كان في المنزل، فهو كان مصارعا. ووصْف سكان القرية مضحك وصادق. تتكرر في الرواية "ثيمة" الراديو كثيرا: (أثناء الانقلاب، عند فصل وزير من وزراء المالية الكثر، عند الانقلاب المضاد الذي فشل). الدكتورة صفاء، المرأة، تلتصق بذكرياته، فقد جاءت مع انقلابه، مع المطر في الخريف.
للمؤلف معرفة جيدة بالنباتات. انه يصف أشكال والوان أشجار عديدة، يصف ذلك بشكل خبير ومقنع "أنا ليس لي معرفة كبيرة بالاشجار". انها تزيد من جمال الكتاب.
جدير بالانتباه استعمال كلمة "الخريف" هنا في عنوان الرواية. توجد بالتاكيد كلمة عربية لفصل الخريف، ولكن مفهوم فصل الخريف ليس له وجود يذكر في مناخ العرب. في كثير من البلدان العربية ينتقل الصيف فجأة الى الشتاء. أما الربيع فهو موجود فعلا: حين يصير الجو لطيفا ومحببا. يمكن القول ان استعمال كلمة الخريف هنا نابع من كون المؤلف موجود في الغرب، حيث للخريف وجود ودور هام في مخيلة الناس في الغرب.
اللغة العربية
اللغة المستخدمة قليلا ما يكون "سهلا" متابعتها. بالطبع جمل طويلة، ولكن هذا امر مالوف في اللغة العربية. كذلك اختيار الكلمات ظل بسيطا: لحد ما كلمات معاصرة، تجعل القراءة ممتعة. قليلا ما يستخدم المؤلف دارجية محلية.
التقييم
هذا أحد الكتب العربية القليلة التي استمتعت بقراءتها، وجعلتني أضحك كثيرا اثناء قراءتها. لا يتبادرن الى ذهنك ان هذه رواية هزلية. بالعكس. انها تصف سخرية السلطة، الانحراف والفساد الذي يصاحب السلطة، وبالرغم من أن الكتاب يصف ذلك ليس بشكل مدرسي، وانما بصورة مركزة وبالتاكيد واقعية وساحرة (انظر اعلاه)، الا انه يعطي الانطباع بذلك. كذلك تصوير سايكولوجية ذي السلطة تم بشكل مقنع جدا. الكتاب يذكرني برواية "عقوبة مدى الحياة" للكاتب رشيد ميموني التي يصف فيها الكاتب بطريقة مشابهة تحولات ذلك الصبي الذي كبر وصار رجلا ليدخل الجيش، يستولي على السلطة ويصبح جنرالا، بما في ذلك تواريخ حبه المتعددة، ثم أفول نجمه. ولكن في هذه القصة لن نجد سيرة سقوط سلطة المشير، انه ينتهي في قريته وسط اوهامه وغفوته.
بناء على الاعتبارات المذكورة أعلاه، فانني سأعطي هذا العمل درجة A بكل سرور. واعتقد ان هذا الكتاب سوف يكون كسبا للجمهور الهولندي القارئ.
يان ياب دو راويتر
متخصص وأستاذ الدراسات العربية بجامعة تلبورخ، هولندا
يونيو 2003
 الترجمة من الهولندية
د. الصاوي يوسف

No comments:

Post a Comment