Thursday, July 19, 2012

أحلام الملكة النائمة

اهداء الى الصديق فتحي البحيري

(فك الله أسره من يد العصابة)

كانت الفتاة الجميلة تتنقل داخل البص على مسئولية جسد خفيف مثل فراشة، كانت لا تبدو كأنها تمشي على قدمين مثل البشر بل تتخلل الاشياء اثناء عبورها مثل سحابة، مثل غمامة عطر، وكانت رائحة جسدها ، خليط من عبق الزهور ورائحة الارض: رائحة الحياة. كنا نجلس داخل البص كأننا في رحلة إلى عوالم اخرى، إلى الفضاء. لم تشغلنا الساعة ولم يسأل أي من الركاب اين نحن ومتى نصل وجهتنا. كأننا وصلنا وجهتنا منذ زمان بعيد فلم يعد ذلك يشغلنا، لم نكن نملك زمننا أو قرارنا. حين توقف البص في سوق ليبيا محطته الأخيرة قبل أن ينطلق إلى الصحراء. أبدى أحدهم الرغبة في الذهاب إلى السوق لشراء علبة سجائر، اعطاه الشاب الذي يجلس بجانبي ثلاثة جنيهات طالبا منه احضار صباع أمير معه. قبل نزوله من البص نظر الرجل بإستعطاف باتجاه الفتاة الجميلة املا إن تطلب منه شيئا ما ، ترسله إلى اية مكان، كان مستعدا للذهاب إلى الجحيم إن كان المقابل بسمة ساحرة أو كلمة شكر. لم تخيب الجميلة ظنه، طلبت منه بصوت ملائكي إن يحضر لها نصف رطل من حلوى الطحينية! قبل إن تمد يدها إلى جيبها لتسحب محفظتها الصغيرة لتدفع قيمة الحلوى الطحينية. دون إن يفكر احد خرجت في نفس اللحظة وبنفس السرعة خمسون محفظة بعدد ركاب البص عارضين دفع قيمة الحلوى الطحينية، حتى الطفل الجالس أمامي أخرج كيسا من قماش الدمور به عملات معدنية اصبحت خارج الاستخدام بفضل التضخم، و لا تكفي لشراء أية شئ، عارضا الدفع! أخرجت انا ايضا محفظتي وان كنت بقيت لبرهة مندهشا لفكرة إن يحتاج كل هذا الجمال لأكل حلوى الطحينية! لكن الرجل الذاهب إلى السوق لم يجد مكافأة له افضل من الطلب نفسه، رفض اخذ نقود من الجميلة مؤكدا إنه يملك مالا كثيرا. فيما بعد اكتشفت انه لم يكن يملك مالا وانه اشترى حلوى الطحينية بثمن صباع امير الذي حصل عليه من الرجل الاخر، لا بد انه فكر قائلا لنفسه: يستطيع الرجال الانتظار! لكن كيف نجعل الملاك ينتظر؟! وما جدوى صباع أمير اصلا؟ دع الاكواب المكسورة والاطباق كما هي دون إلصاق، في كل الاحوال بسبب التقشف الذي اعلنته الحكومة لا يوجد كثير من الطعام يحتاج لاستخدام حتى الاطباق المكسورة. واختفت لحسن الحظ مادة السكر من الاسواق بسبب الغلاء. عرفت بذلك حين وجدت الشاب الجالس بجانبي يتشاجر مع الرجل الذي احضر حلوى الطحنية، هامسا له انه سيخبر الجميلة إن الطحنية تم شرائها بنقوده إن لم يعد اليه النقود! بالفعل سمعت الرجل يقول وكأنه قرأ افكاري: يمكنك الانتظار، انت معتاد عليه منذ إن ولدت، لكن كيف نجعل الملاك ينتظر؟ هل رأيت من قبل ملاكا ينتظر شيئا ما! كان رده مقنعا حتى إن الرجل الجالس إلى جواري كف عن التذمر وتذكيره كل بضع دقائق انه مدين له بثمن الحلوى وانه هو من يجب إن تشكره الجميلة لأنه دفع ثمن الحلوى. لم نشعر بحرارة الجو، رغم إن الصحراء خارج البص كانت على وشك الاشتعال، مضى النهار الطويل بسرعة كأنه يسابق البص نفسه، حتى انتبهنا إلى الشمس التي كانت تغرق في الصحراء. بدت لنا كأنها ترفع يدها مستنجدة بنا أن ننقذها قبل إن تغرق في جحيم الظلام. كان صعبا علينا فهم مرور الزمن، بدت لنا الشمس الغاربة جزءا من الجمال الذي يغرق الكون. تعالى صوت عزف على آلة الطنبور، مضى بعض الوقت قبل إن نتبينه، كان الرجل الذي احضر الحلاوة الطحينية هو اول من تنبه له. كان هناك فتى في مقدمة البص يعزف لحنا حزينا مثل تلك الشمس الغاربة، كان اللحن يبدو أيضا وكأنه يستنجد بشئ مجهول حتى لا يضيع وسط أمواج السحر الذي يغرق المكان. ثم بدأ الفتى يغني، كان يغني مقطعا وتغني الفتاة الجميلة مقطعا آخر، غرقنا تماما في سحر الغناء الذي شعرنا كأننا نطفو فوق أمواجه. رأيت القمر يقترب من النافذة، جذبه صوت الغناء الجميل. تمنيت في تلك اللحظة إن يتعطل البص أو يحدث زلزال قوته عشرة درجات على مقياس هذا الحلم الجميل لنبق نطفو فيه إلى الأبد. حين أخلدت الجميلة إلى النوم، إنقطعت فجأة نغمات الطنبور، نام العالم كله، بدت حتى الصحراء نفسها كأنها وجدت في تلك اللحظة كغطاء سحرى لنوم الجميلة. لم يكن يصدر عنها أية صوت أثناء نومها، كأن العالم نفسه توقف عن التنفس، كنت الوحيد الذي بقي مستيقظا فيما صوت البص يزأر في سكون الصحراء مثل أسد هزمه الجوع. وحتى لا أشعر بالسأم لأنني لا أخلد ابدا للنوم في مكان يتحرك، فكرت في ممارسة هوايتي في قراءة أحلام من يخلدون للنوم حولي. لم أر شيئا في البداية حتى حسبت إن سحر هذه الجميلة عطل كل مواهبي في اقتحام ذاكرة النائمين، فجأة رأيت الهواء داخل البص مليئا بأنفاس أحلامها. رأيت وجوها معلقة في الفضاء مثل النجوم، رأيتها تجلس مثل الملكة الكنداكة فوق عرش من النور، ثم بدأت شلالات الضوء تتدفق من عرشها تعبر مثل سيل من النور فتهرب أمامها جيوش الظلام ، فيصبح العالم كله كتلة من النور. لابد إن الجميلة انتقلت فجأة إلى نوم عميق فقد اختفت أحلامها من الهواء، رغم أن شلالات ضوء عرسها كانت لا تزال تضئ العالم. رأيت أحلام الرجل الذي أحضر الحلوى الطحينية للجميلة، دهشت لأن أحلامه يغلب عليها الجشع، كان جالسا في متجر ضخم مكدس بالبضائع من كل نوع، كل ما يحلم به كان معروضا للبيع، حسبته من حادثة الحلاوة الطحينية يملك قلبا كبيرا حتى انه إختلس نقود صديقه بدافع الحب، لكن أحلامه أوضحت أنه يمكن إن يختلس نقودا لدوافع اخرى. رأيت أحلام الفتى الصغير الذي كان يعزف على الطنبور، وجدت بقية الصور التي ضاعت في احلام الجميلة حين غرقت في لجة النوم العميق. مواكب النور التي كانت تمضي في رحلة الأبد نحو الشمس. رأيت أحلام رجل يجلس في مؤخرة البص، عرفت من أحلامه أنه لص فقير لا يجد حتى ما يسد رمقه. كان يسرق في حلمه قصرا منيفا لرجل يملك سلطة ومالا. كان اللص جالسا أرضا يحصي أكداسا من العملات الصعبة التي عثر عليها في القصر. فجأة وجدت هواء البص يمتلئ مرة أخرى بأحلام الجميلة. كانت أحلامها واضحة وساحرة رغم إن ضوء الفجر بدأ في التسلل عبر النوافذ، تمنيت ألا تشرق الشمس أبدا، إن تضيع في الفضاء وتنسى أية عالم سيتعين عليها إيقاظه بأشعتها الحارقة. بدأت في سحب جسدي ببطء من المقعد، لقد عزمت على شئ: أن أقتحم أحلام هذه الأميرة وأضع جسدي في مواكب الأنوار التي تتهيأ لطرد فلول الظلام!